هناك، على حافة نهر قديم، كالألم، ولد طفل الهجرات الذي لم يصبح له ماض بعد، ليغزو الفضاء بطيارة ورقية، تشبه حوتاً يجول في سماء الغبار، ثم انقطع الخيط ليضيع الحلم في سديم بعيد لكنه اصطدم بكويكب مشتعل فاحترق حتى اليوم.
هناك، أيضاً، لم تصبح الـ "هنا"، بعدُ، كان أبناء الهور يقودون مشاحيفهم على شارع مبلط للتو حسبوه نهراً، حتى جاء من قال لهم أن المشاحيف لا عجلات لها ولم يكن للكابتن رأس ملتهبٌ بالسيموطيقا، علامات العشق والموت، ولا يعرف أحد بعد، أن من دلالات الرحيل عدم التوطن إلى الأبد، غير أن تكاليف الحياة جعلت الناس بلا رقاب، يسيرون على أربع ويقرأون الرمل في حافات عيونهم ولا يعرفون أن فوق الأرض سماء وسيعة.
باص خشبي محمل بعوائل وأغنام وصرر بلا لون تركض عبر صحراء بلا مصابيح نحو المدينة الكبيرة، مدينة بمصابيح كبيرة بلا صحراء.
هناك، أبواق تصدح على البساط الملكي الأحمر، وضباط كبار يصنعون المؤامرة تلو الأخرى، تنجح وتخيب وتنجح، غالباً، وتسقط صورة حاكم وتعلق أخرى على جدران البيوت وفي الساحات العام، والراديو جهاز للأناشيد الكبيرة وبرامج الزراعة ونشرات الأخبار.
في الغرفة، ثمة معدات الوالدة/ الزوجة الثانية: المحلب في الحُقّ وحناء ليلة العيد والكشتبان (وتتداعى الأبرة طبعاً) والمبرد والكظماوي والكبردين والسوتاج والبريسم (من الشوّاكة) ورمضان الطرشي والزلابية (تتداعى البقلاوة أيضاً) ويميل حائط الطين، دائماً، وتستأنف الكلاب نباحها أول الليل/ دائماً أيضاً ويسهر المقيمون بلا رحيل جديد على ضوء فانوس له زجاجة سوداء وإبريق الشاي في منقلة الرماد وفجأة صوت زهور حسين يكسر زجاج الحكومة، ومنشور ثوري مخبأ تحت الجلد.
تأتي عوائل من خلف النهر هاربة من الفيضان والسمك الميت وتحل ضيوفاً على بيوت بلا أسرة ولا بطانيات ولا فطور ثمة، والليالي تكتفي بهلال راحل سيصبح بدراً والليل أزرق برّاق، مبلّل بالندى الثقيل على فراش الولد وهو يستمني ولا يقذف.
هناك، بدأت اللغة الأولى ترتجف خائفة من معانيها الخطرة، اللغة التي بلغت سن الرشد وعافت طفولتها تلهو مع الماضي السحيق وتطلعت نحو آفاق البنات وهن يرفلن بنكهة الشهوة تلطم ليلة عاشوراء والشبان قريبون وبعيدون تلمع عيونهم بمواعيد سرية، مشفّرة، ستنتعظ عند الهريسة، وتسقط النجوم لفرط اللذة، ونلعب فرحين بشواظ من نار.. يتداعى أُمية بن خلف يهجو حسان بن ثابت: "أَلَيْسَ أَبوك فينا كان قَيْناً/ لَدَى القَيْناتِ، فَسْلاً في الحِفاظِ؟ يَمانِيّاً يَظَلُّ يَشُدُّ كِيراً، ويَنْفُخُ دائباً لَهَبَ الشُّواظِ".
وهناك، من نهجوه اليوم، وليس لدى الشعراء عربات مفخخة ولا سكاكين ولا أموال للبيع السياسي والشراء الانتخابي، لأنهم يهجون، حسب، فيشيرون بالإصبع الوسطى للحاكم وبالعفطة المموسقة للنائب وبالضراط على الناهق الرسمي وبالغمزة من فاسدٍ مفضوح وباللمزة واضحة كالفضيحة وبالضحك على دولة بلا قانون وبالوثيقة تكشف صورة الانتهازي بالزّي الزيتوني، على الفيسبوك.
وهناك: من هجوناه بالأمس، ونحن نعدّ حقائبنا الفقيرة نحو منفانا الغني بالحرية، الذي تركناه خلفناه، سعيدين بمصيره البائس، وهو يخوض حروبه الخاسرة، أتفه من حمل رتبة مهيب وأقل من دكتاتور حتى.
هناك، على أوراقي أتداعى حرّاً، أكثر حرية من طير سعيد بجناحين أكبر من كل الرياح، وأرفض أن أكون رهين ماضٍ هو أتعس أزمنة الناس، فأنا قرين قصيدة مستقبل حافل بأحفادي الذين سيفرحون بموتي مؤرخاً للأحزان والفشل والوحشة، لأنهم سيكتبون كلمات زمن آت أقل رحيلاً وشتاتاَ وأكثر تعبيراً عن العصر.
.. وهناك تداعيات أخرى
[post-views]
نشر في: 25 فبراير, 2013: 08:00 م