ولعي بسينما الخيال العلمي لا يضاهيه ولع، حتى لا أكاد أشاهد غير أفلام هذه السينما، وكنت أحسب، فيما مضى، أن سبب هذا الولع هو حبي للأفكار العلمية التي تطرحها هذه الأفلام وتعبّر من خلالها عن طوحات الكائن البشري الجامحة. لكن في السنين الأخيرة، بدأت أميل، أيضاً، لمتابعة أفلام الأساطير، كسلسلتي أفلام "سيد الخواتم" و"هاري بوتر"، ومنذ ذلك الوقت شككت بالسبب الكامن وراء متابعتي أفلام الخيال العلمي؛ فأفلام الأسطورة لا تكاد أن تطرح غير أساطير مغرقة بخياليتها، والأساطير لا تُشْبع غير رغبتنا بالتخيل، أو ميلنا للهروب من الواقع. إذاً، ما الذي يجعلني مولعاً بمتابعة أفلام الأساطير؟
هذا السؤال سبقه سؤال آخر، هو؛ لماذا قفزت فجأة إلى أعلى مبيعات شباك التذاكر، الأفلام التي تعالج الأساطير القديمة، كأساطير الآلهة اليونانية، مثلاً؟ فحجم مبيعات هذه الأفلام يكشف عن اهتمام جماهيري واسع، وهو أمر لا بد أن يرسم علامة استفهام كبيرة.
شخصياً أجد بأن الثقة العلمية، التي سادت في القرون الأخيرة، وبشرت باكتشاف المعرفة الكاملة، أو القوانين التي تفسر كل شيء. هذه الثقة تزعزعت، الأمر الذي أفقد الصرامة العلمية بريقها، وهو بريق استطاع ولوقت طويل أن يُحَوّل كل ما يتعلق بالخيال إلى نكتة يخشى غالبية الناس تناولها. المعرفة العلمية اليوم تقف بمواجهة علامات استفهام من نمط مختلف، نمط أحسب أنه يتجاوز قدرات الوعي البشري، ما جعل العقول البشرية "الكبيرة" تقف بنا على حافّة مواضيع بحث واهتمامات، هي أقرب للخيال منها إلى الواقع. كنظرية الأوتار التي تحاول أن تؤكد بأن الوجود ينبثق بسبب اهتزازات أوتار متناهية الصغر وتشترك بعزف ما يشبه السيمفونية الكونية. من هنا يبدو أن الميل تجاه أفلام الخيال والأسطورة يجد مبرراته في هذه التخوم. أقصد تخوم الواقع الخيالي، فالعلماء لم يعودوا متأكدين، الآن، فيما إذا كان الخيال يمثل نكتة مضحكة لدرجة كبيرة، لأن واقع الأجسام الصغيرة الذي نزلوا لدراسته يؤكد لهم، يوماً بعد آخر، بأن الواقع قد لا يكون واقعياً بالشكل الذي حددناه عن مفهوم الواقعية. واقع يمكن أن يكون فيه الجُسَيم الطبيعي قادراً على مراوغة التنبؤ العلمي بشكل مذهل.
في القرون الأربعة السابقة، حاول علماء الطبيعة أن يُشَيّدوا جداراً عازلا بيننا وبين قدرتنا التخيليّة، جداراً حرّم على هذه القدرة ممارسة أيّ مشاركة بترسيم ملامح المعرفة العلمية؛ باعتبارها قدرة مُظَلِّلة. اليوم أتابع تزايد عدد الشقوق في هذا الجدار، ما يبشرني بعصر ينفتح فيه العلمي على الخيالي، عصر نعيد فيه بناء هيكل وعينا المقدس ونخليه من كثير من أوثان معرفتنا البالية.
تخوم المعرفة المظلمة
[post-views]
نشر في: 26 فبراير, 2013: 08:00 م