الاحساس يترتب عليه وعي، وعلى الوعي يترتب سلوك وعمل. ويأتي الاحساس نتيجة علاقة تفاعلية بين طرفين، ذات مع أخرى، أو ذات مع موضوع. أنت مع ابنك أو صديقك أو رفيقك أو زميلك. أو أنت مع بيت أو شجرة أو كتاب أو لوحة أو مؤسسة أو بلد. التأثر الناشىء عن التفاعل بين الشخص تجاه الآخر، أو الذات تجاه الموضوع، هو ما يسمى الإحساس.
الاحساس الناشىء عن التفاعل بين الآباء والبنين، وهما أقرب الكائنات الى بعضهما، ينتج عنه حب واحترام. الحب يجعل الأب دائم التفكير بأبنائه، دائم العمل من أجل اسعادهم، دائم البذل من أجل تعليمهم وترقيتهم، يحترم حاجتهم الى الحنان ويلبيها، يراعي رغباتهم في اللعب ويحرص على تحقيقها.
إن أهم ما "ينتجه" الآباء هم الأبناء. فالمخلوق البشري هو "أثمن رأسمال" على رأي ماركس. محبة هذا الرأسمال، واحاطته بأقصى اهتمام، وتنميته هي أهم وظائف الآباء. إذا تخاذلوا عن هذه المهام تحولوا الى جناة، الى مجرمين. وهم لا يهبطون الى مثل هذا الحضيض إلا لأنهم من الأصل لم يتفاعلوا تفاعلا طبيعيا أو صحيا مع أبنائهم، ولم يتولد لديهم تبعا لذلك "الاحساس" بهم، الاحساس الذي ينشأ عنه وعي، تنبثق عنه عواطف الحب وواجبات المسؤولية. ان هذه العواطف والواجبات هي التي تؤلف الضمير. وغيابها يعني انعدام الضمير.
لكن قد يصادفك الأب الذي يحس بأبنائه ويحبهم ويريد اسعادهم ولكنه لا يستطيع، لأنه - مثلا لا حصرا- بخيل، كبطل رواية فرانسوا مورياك "عقدة الأفاعي". إن ثلاثة أرباع سعادة الأبناء مصدرها المال، قدرة الإنفاق عليهم. لكن البخل، أو ما سماه مورياك "عقدة الأفاعي"، يضع في جيب الأب عقربا يلدغه اذا تحرك وتبرمك.
إنها "عقدة"، بلا حلال. هي تضغط عليه وتسجن كرمه. وعاطفته تجاه أبنائه تضغط عليه بدورها لكنها تعجز عن تحريره من سجن العقدة المرير. لذلك أصبح الأب مصدر تعاسة الأبناء. انهم لا يطيقونه. في حين أنه يحلم برؤيتهم ضاحكين لاهين سعيدين. فتح ثقبا سريا في باب غرفة مكتبه، مطلا على الصالون، ليتفرج عليهم من خلاله، ولكم كان يسعد حين يراهم يمرحون بين بعضهم أو مع أمهم. في مثل تلك الحالات كان يجد سعادته. وكان يحرم منها اذا جلس الى جانبهم، لأنهم عندها يتخشبون. وهكذا فإن كرمه الفريد تجسد في الحرص على تجنب الجلوس بينهم، حتى يأخذوا راحتهم، ويكونوا على سجيتهم.
ولكم أن تتخيلوا كيف يمكن أن تكون علاقة مثل هذا الرجل بالمحيط الأوسع من عائلته. ماذا يمكن أن يعطي للمجتمع اذا انعدمت لديه قدرة العطاء لعائلته؟
في الحالين، بوجود الاحساس او عدمه لدى البخيل، فإن النتيجة واحدة: مضرة العائلة والمجتمع. وبصرف النظر عن البخل والكرم، اذ يمكن أن يكون الكريم من جهة الحساسية كالبخيل، فإن انعدام الاحساس أو وجوده مع وقف التنفيذ يرتد في كل الأحوال مضرة تتفاوت في حجمها حسب موقع أو وظيفة الشخص في المجتمع.
على أن الأضرار الاجتماعية أو العامة لانعدام الاحساس والضمير تخف في بلدان المؤسسات، لأن الحكم فيها للقانون وليس للأشخاص. فلا الأب ولا الحاكم يستطيع أن يغلظ أو يرق على هواه، لأن القانون له بالمرصاد. لكن يا ويل وسواد ليل البلدان الأخرى اذا نكبت بآباء أو بحكام أو ساسة عديمي احساس. عندها يكون سوء الضمير هو القاعدة، والفساد هو الشريعة، والعذاب هو الطريقة والعقيدة.
اللهم ارحم!