"جدح النوال الياچ يار وحي بديه.. خافن هله ايملون وتعود عليه"
أُردد بيت الدرامي هذا باستمرار؛ لأنه يخفي بين كلماته موقفاً غاية بالرفعة والعصامية، فصاحب هذا الشعر يطلب من روحه أن تسكب، قدح النوال ـ أي الأعطية ـ الذي جاءها؛ خوفا من أن يبخل أهله في يوم من الأيام بعد أن تتعود على طعمه، فيضطر للتذلل من أجل الاستمرار بالحصول عليه. هو يخاف من أن يُسْتخدم تعوده على الأعطية لإذلاله في يوم ما، ولذلك هو يرفض هذه الأعطية من الأساس.
فلسفة عظيمة تلك التي يتضمنها هذا الشعر الشعبي التلقائي، وهي فلسفة غاية بالعصامية، والسؤال الذي يتعبني ـ كما يتعب الكثيرين ـ التفكير فيه هو؛ أين ذهبت الثقافة التي يتحدث باسمها هذا البيت؟
بيت الشعر هذا، عشائري، ريفي، شعبي، فأين تبخرت ثقافته من أبناء شريحة تشكل الآن غالبية العمال والموظفين والمسؤولين والوزراء والبرلمانيين والمثقفين؟ هذا التعالي عن قبول العطايا وهذا الرفض لأي إذلال يمكن أن تتضمنه، كيف تبخر من أخلاق أهلنا ومجتمعنا بحيث صارت كل معاملاتنا اليومية لا تنساب إلا على سكة العطايا والهدايا والإكراميات؟
سرقة المال العام والتفريط بالحقوق وانتهاك القوانين باتت سلوكيات عامة لا تجد تجلياتها في الفسادين المالي والإداري فقط، بل في التعامل اليومي.. في الشارع وفي السوق وفي البيت.. أريد أن أقول بأن المسؤول الذي يسرق البلد لا يمارس جريمته وحده، بل يشترك معه الجميع؛ تشترك معه زوجته التي تقبل الأعطيات التي تأتيها بسبب فساده، ويشترك معه أبناؤه وبقية عائلته وأصدقاؤه، فالكل يعلمون بالسرقة ويسكتون عنها من أجل الحصول على أقداح النوال التي تأتي بسبب الفساد، وهذا اشتراك واضح بالجريمة وتضامن من أجل حماية مرتكبها.
في بيت الدارمي كشف عن الجذور الصغيرة التي تتبرعم من خلالها جرائم الفساد الكبرى، فالشرائح الفقيرة من أبناء مجتمعنا يمثلون المساحة الواسعة التي يقع عليها جور الفساد، لكنها مساحة لا ترفض هذا الفساد بشكل عملي، بل هي مستعدة لممارسته أو القبول به في أي لحظة، وهذا هو المرض الذي نعانيه، فالمسؤول الفاسد لا يمارس فساده خارج الزمان والمكان، بل هو يفعل ذلك بيننا بشكل مكشوف، ونحن لا نرفض جريمته لأننا نريد أن نأخذ قدح النوال الذي يأتينا منه، بينما نطالب الآخرين بأن يسكبوا أقداحهم.