على ذمة "المدى برس" أن التيار الصدري نجح في جعل "كليدار المنطقة الخضراء" أو سدنتها من العسكر، يعيشون ليلة من الرعب. لقد تقدموا بلا أي حذر نحو المنطقة الخضراء، وأقاموا ليلتهم هناك، ثم انسحبوا.
العملية استعراض مهم أمام بيت المالكي الذي ظل مصراً على أن يحاول إخضاع كل شركائه، وخاصة في ملف مدحت المحمود. الصدر لم يتحدث كثيراً عن هذه النقطة بل تصرف عملياً وجعل المالكي يرى كيف بإمكان زعيم شيعي من داخل العملية السياسية، أن يقوم بتسيير تظاهرة سلمية حتى باب المنطقة الخضراء، تجعل كل "كليدار" يشعر بالهلع.
كان الفريق السياسي والعسكري للمالكي يعتقد أن في وسعه أن يواصل العبث بالقرارات والقضاء والمال، من دون أن يعكر صفوه أحد. فإذا أراد أهل الأعظمية أن يتظاهروا، يكفي أن يطوق مناطقهم. كما أن إغلاق بوابات بغداد الشمالية ستمنع تظاهرات غرب البلاد من أن تنتقل الى العاصمة. لكن الصدر يفاجئ المالكي ويقول له: "في وسعي أن أخرق كل قطوعاتك الأمنية وأن أنام أمام بوابة خضرائك.. عليك إيقاف هذه اللعبة السمجة، والعودة الى الشرعية البرلمانية، وإلا فإن أمامنا خيارات عديدة تتصاعد كلما اقتربت الانتخابات".
والحقيقة، لو كانت المواجهة طائفية، فإن في وسع المالكي أن يقوم بتطويق السنّة وحشد كلّ الشيعة خلفه، وإبقاء عين حذرة على الجبل الكردي. لكن الاختراق الذي حصل ربيع العام الماضي والجبهة الواسعة الجديدة التي تشكلت من معارضي نهج المالكي، تجعله حائراً أمام ألف باب وباب داخل بغداد وخارجها. فهل ستوصد البوابات أمام الفلوجة والرمادي؟ أم أمام الأكراد الذين يقولون له أن ميزانية ما بعد تشكل محور أربيل – نجف، ليست مثل سابقاتها؟ أم يغلق أبوابه أمام الصدر الذي في وسعه أن يتظاهر ويثير حماس كل ساخط على فشل الفريق السياسي والعسكري للسلطان؟ أم أمام باقي التيارات الديمقراطية واليسار وأشخاص مستقلين ومؤثرين من كل الجهات؟
الصحفيون الأجانب يتقاطرون على البلاد هذه الأيام كي يكتبوا عن نتيجة السنوات العشر الماضية التي مرت بعد سقوط صدام حسين. وحين أخوض معهم ثرثرة بشأن الأمر، يحلو لي أن أزعم أن عشرة أعوام مرت بوصفها زماناً لصفقات بدائية، كانت تخلو كثيراً من السياسة، أو المعايير المعتمدة في بلدان التحول السياسي. أما وقد أوشك عاشر أعوام التغيير على الانتهاء، فإنني وغيري نلمح لأول مرة انتقال لعبتنا من تلك الصفقات البدائية بين زعماء القبائل والطوائف، الى مشهد ينتمي لعالم الشطرنج.
أمور كثيرة تغيرت منذ أن عاد المالكي إلينا في ولايته الثانية. غروره تراجع وتسرعه تزايد. فقد أدرك حجم خصومه وسعة حيلتهم في لحظة متأخرة، وراح يعالج إدراكه المتأخر بالمزيد من القرارات المتسرعة.
هو حائر الآن مع الصدر. أعلن طلاقه النهائي حين عزل شنشل من المساءلة والعدالة، لكنه فوجيء بالصدر على بوابات المنطقة الخضراء، فأمضى الجنرالات ليلة هلع غير عارفين بما سيحصل صباحاً.
الصدر قرر سلفاً أنه لن يصطدم بالعسكر، ففي صندوقه أوراق رابحة أكثر مما يحتاج. لكنه قرر أن يستعرض لإيصال أكثر من رسالة للجميع.
والحصيلة أن لعبة الشطرنج تبدو مثيرة للغاية. والمراقب الهاوي يصاب باليأس كلما حدث أمر سيئ. لكن علينا أن ننتظر بعد كل حركة على رقعة اللعبة، الحركة المقابلة، وسيكون في وسعنا تخمين من يحسب الأمر جيداً، ومن يتسرع ويخسر كل أوراقه.
لقد أمضيت ساعتين مطلع الأسبوع مع الأستاذ عادل عبد المهدي نائب الرئيس المستقيل، وكنت أجلس كتلميذ أنصت لتقييماته العامة لما يجري كخبير نادر بين طبقتنا السياسية، يستوعب أكثر من اتجاه فكري حاول أن يقدم تأويله الخاص للتأريخ البشري، أو لحركة الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط على نحو خاص.
ويثير عبد المهدي إعجاب المستمع بقدرته على أن يرتفع فوق المشهد وتفاصيله، ويستعرض أمامك بنحو مشوق، قواعد التحول وشروطه في أكثر من تجربة. أن اليأس من الإصلاح السياسي لا يعرف طريقا الى قلبه، وهو يحاول تذكيرنا جميعا بأن التاريخ بطيء جداً، وعلينا أن نصبر على قواعده وهي تشتغل، ونقوم بدورنا في كل مفصل من دون ملل، ونترقب النتائج.
وقد خرجت من داره وأنا أتخيل التأريخ رجلاً عجوزاً مثقلاً بتجارب الأمم، يسخر من استعجالنا ويجرّ أقدامه جراً، ويطلب منّا أن نشاركه متعة شطرنج لا تنتهي. وشرط المتعة أن نتحلى بشجاعة الإصلاح المستمر لطرائقنا، ومشاركة أذكي الرجال في عقولها، وطرد اليأس بنحو مستمر، والتحلي بخيال خصب بشأن السيناريوهات المقبلة.
يسألني الصحفيون الأجانب: ماذا تعني 10 سنوات بلا صدام حسين؟ فأقول لهم: أهم نتيجة هي أننا امتلكنا تعددية سياسية فشل أمثال السيد نوري المالكي في مصادرتها. وأثبتنا لكل المؤثرين في سياستنا الداخلية، أن صفقة الداخل قوية وليست تابعة لمحور.. حتى لو كانت تتفاعل مع ما حولها من وضع إقليمي. إنها لعبة شطرنج ممتعة، لمن يفهم قواعد الحركات.
جميع التعليقات 3
رمزي الحيدر
تأريخ العراق الحاضر بالفعل رجلاً عجوزاً مثقلاً بأمراضه وعاهاته ويبحث عن قبراًً لدفن نفسه. والفخر للإسلام السياسي.
أحمد الكعبي
لو نجح عادل عبد المهدي في السلطة عام 2005 بدلا من الجعفري لما تغير الحال ولرأيناه مالكيا دكتاتور آخر .. المشكلة في الثقافة لا في الأشخاص،، عزيزي سرمد
كاطع جواد
ربما انها لعبة شطرنج في بعض جوانبها لكن تاريخ الشعوب يعلمنا ان هناك أمور حتمية لا يمكن ان نتصورها ونقيس أبعادها فالعراقيون بعد ان ذاقوا طعم الحرية واحسوا بالأمان ليس هناك قوة تستطيع اليوم ان تسلبهم هذا الحق وتبعدهم عن طموحاتهم وان عطلت مشاريعهم وأوقفت