قضيتان شغلتا بالي صباحا، ابدأها بالفرح الغامر الذي تتناقله وسائل الاعلام بشأن شرائنا باخرة صغيرة حمولتها 5 آلاف طن (الكبيرة تنقل 35 الف طن) من الصين. الدوائر البحرية والملاحية فقدت كل اسطولها التجاري خلال الحروب الماضية، ومعظم كوادرها عاطلة عن العمل لا تبحر في شط ولا محيط. ومن حقها ان تشعر بالسعادة بامتلاكها الباخرة "بغداد" رغم ان رجال الاعمال العراقيين يسيرون نحو ١٠٠ سفينة تجارية ويجعلوننا نتفاءل بإسهام القطاع الخاص في احياء القطاع البحري.
ان 90 في المائة من التجارة العالمية تنقل عبر البحر لانها تخفض تكاليف الشحن والاستيراد بنسبة كبيرة، وفي وسع العراق بموقعه وخبراته التاريخية ضمن منطقة الخليج والساحل الاسيوي، ان يعيد احياء سندباداتنا الاكثر شهرة في المنطقة، ويدخل شريكا اساسيا في الملاحة على واحد من اهم خطوط الشحن التي تربط الصين بأوربا والعالم الصناعي.
وحين قرأت الخبر وجدت ان سعر الباخرة التي فرحنا بها جميعا هو 14 مليون دولار فقط، وهو مبلغ بسيط جدا اذا قارناه بنحو 4 مليارات دولار ثمن صفقة تسلح واحدة مع موسكو ابرمناها مؤخرا. ولو اشترى العراقيون باخرة واحدة مقابل كل بضع دبابات اشتريناها، لامكن ان يكون لدينا خلال سنتين اسطول معتبر يجوب البحار ويقوم بتشغيل عاطلينا، وتكون ارباحه موازية لعوائد النفط الذي سينتهي مع نهاية القرن الحالي، بينما موقعنا البحري سيظل ثابتا لا يتزحزح او هكذا يفترض. ان البحر اهم من النفط، ولذلك كانت البصرة وكذلك سوق بغداد، ثرية وغنية ومهمة قبل ظهور النفط، وكانت كل الدنيا تدخل باحثة عن ارض بابل، عبر شط العرب. من يقنع السلطان بخصم بضعة ملايين اخرى من اموال التسليح لشراء بضع بواخر وتطوير خبرات شبابنا الملاحية؟
الامر الثاني الذي جعلني مع كثير من الاصدقاء نشعر بالالم هو ان احد اصدقائنا من الكتاب الشجعان والاذكياء والمتعلمين تعليما جيدا، قام بشتم اثنين من افضل كتابنا وأدبائنا المهذبين وذوي السمعة النظيفة، لانهم ألقوا التحية على شاعر مهم كان بعثيا. وفي وسعنا جميعا ان نختلف مع السيدين الأديبين او نتفق معهما، لكن ان نقوم بوصف محمد الاخرس بأنه "يستجدي التحية والسلام" ونقول ان طالب عبد العزيز "منافق" فإنه امر يتوجب ان تعتذر عنه يا صديقنا ناظم عودة.
ان عجزنا عن الحوار داخل الوسط الثقافي يماثل عجزنا في المجتمع عن تنظيم حياتنا ومسارعتنا الى العراك واللجوء الى الفصل العشائري لتسوية مشاكل صارت بسيطة جدا لدى الشعوب المتحضرة. ويماثل عجزنا عن رسم طريقة متحضرة لتسوية خلافات التيار الديني والعلماني، اذ لم نجد حلا سوى تسيير العساكر لركل مؤخرات مرتادي نوادي الادباء والصيادلة.
ادارة المثقفين لمعاركهم بطريقة الشتائم، والنيل من شخصيات غاية في التهذيب مثل الاخرس وعبد العزيز، بسبب اختلاف حول قضية صارت قديمة نسبيا وسط عهد الخراب الاخلاقي الرهيب الذي نعيشه اليوم، هو حقيقة تؤكد ان ازمة التعايش والتسامح لا تقتصر على الاسلام السياسي او التيارات المتشددة التي ننتقدها، ومؤلم جدا ان نشعر بأننا جميعا نعاني داء رفض من نختلف معه وشتمه والنيل من كرامته بهذه الطريقة.
انما نختبر تحضر الشعوب بطريقة تسويتها للمشاكل. وأستطيع ان أتفهم عشرات الشتائم التي تلاحقني يوميا عبر وسائل الاتصال بسبب المقالات التي اكتب، وأقول ان جمهورنا بسيط وبريء وعلى امثالي ان يتحملوه ليقدموا نموذجا في التعامل المتحضر القائم على الحوار والمعلومة والتحليل. والكثير ممن يشتمونني يعودون ليعتذروا بعد ان اخوض معهم حوارا هادئا ونتوصل في النهاية الى اننا نختلف كثيرا ولكن ننتمي جميعا الى الوطن. لا انا قادر على الغائهم ولا هم سينجحون في حذفي او سحلي. لكن ان يأتي مثقف بارز ويقوم بإهانة اكثر ادبائنا تهذيبا على هذا النحو، فهو ما لا افهمه وأتمنى ان يجري اصلاحه سريعا، ولم نعهد الصديق ناظم شتاما من قبل ونتمنى ان تكون كبوة فارس ويجري تطييب خاطر الصديقين باعتذار متحضر.
اننا نعول على وسطنا الادبي كي يسهم في انتاج اسلوب احتجاج حديث، ودعم ليبرالية ناشئة تمنع ظهور دكتاتور، وهو ما سيفك عنا العزلة التي وضعتنا في قمقمها سياسات صدام حسين وأشباهه. اما اذا عجزنا عن ادارة حوار صحي فيما بيننا خال من الاهانة الشخصية، فلن يقود هذه البلاد سوى الاكثر تطرفا والارسخ تشددا، وعائدون الى "محور الشر" بعون الله.
بواخرا لسندباد وشتائم بين المثقفين
[post-views]
نشر في: 16 أكتوبر, 2012: 08:44 م