يحاول البعض أن يوهم الناس البسطاء، بأن مشاكلهم اليومية لا تتعلق بغياب الأمن والخدمات، وأن معركتهم الحقيقية ليست مع سراق المال العام، ومروجي الخطب الطائفية، وان الأزمة العراقية ليست السعي إلى تقسيم البلاد لدويلات طائفية.. وإنما أزمتنا الحقيقية هي مع فعاليات غنائية ربما يتجرأ القائمون على مشروع بغداد عاصمة للثقافة أن يجعلوا منها بديلا لخطب سياسيينا التي يريد لها البعض ان تصبح جزءا من طقوسنا اليومية..
ففي جزء من خطبته أمس حذر السيد صدر الدين القبانجي من "بدء فعاليات بغداد عاصمة الثقافة بمحافل الرقص والغناء تحت مسميات الفنون العربية".. وقفت أمام هذه العبارة طويلا لأفهم شيئاً محدداً، حول رفض السيد القبانجي أن تكون الفنون العربية جزءا من نشاط ثقافي أطلق عليه اسم بغداد عاصمة الثقافة العربية.. فلم يسعفني جهلي وغبائي لإدراك المعاني الخفية والغايات الخطيرة التي جعلت السيد يصرخ بصوت عال "الله الله في اسلاميات الفعاليات" برغم أن احدا لم يخبرنا بان اختيار بغداد عاصمة للثقافة العربية فيه تجاوز على مكانة بغداد الاسلامية التي لا تزال برغم كل المحن والمصاعب، مركز اشعاع اسلامي وحاضرة مهمة من حواضر الثقافة الإسلامية.
إن المفارقة الصادمة هنا أن السيد القبانجي يقول هذا الكلام في سياق ما اعتبرها مبادرة لدعم فعاليات بغداد عاصمة الثقافة، لكنه من حيث لا يدري أو يدري يأتي بخطاب يحرم فيه فعاليات هي جزء من نشاط ثقافي وفني امتازت به بغداد عبر عصورها الطويلة، الا ان الأغرب في خطبة السيد القبانجي هو إصراره على ان بغداد هي نتاج للحضارة الإسلامية فقط، ناسيا ان عظمة بغداد انها بنيت بيد ابنائها من معظم الطوائف.. ولعل مراجعة سريعة للتاريخ تكشف لنا حجم المساهمات الكبيرة لكل أبناء بغداد في تسطير تاريخها الثقافي والحضارة.. وتخبرنا أيضا كتب التاريخ ايضا ان ازدهار الترجمة والعلوم في عصور بغداد الذهبية كان بفضل، أبنائها من المسلمين والمسيحيين واليهود.
للأسف لا ادري لماذا يريد رجل دين ينتمي لتيار سياسي قدم التضحيات الكبيرة في سبيل حرية العراقيين من الدكتاتورية والتسلط ان يصر في معظم خطبه على ان قضية العراقيين تتلخص في الغناء والموسيقى والرقص، فاغلب الظن أنه يتصور ان مطالب العراقيين في العدالة الاجتماعية والأمان والسكن النظيف، قد حسمت ولم يبق في الاجواء سوى منغصات المطربين ومن لف لفهم، عندما يعتقد البعض من رجال السياسة ان بناء الدولة لا يتم الا في التخلص من كل المسارح ودور السينما والمنتديات الاجتماعية، وليس في نبذ السراق والمفسدين وأمراء الطوائف، فعلينا جميعا ان نشعر بالخوف على مستقبل البلاد، لان من يقول هذا الكلام اليوم فربما غدا يحوله إلى تشريعات تقضي برجم كل من يخالفه الرأي.
لقد ملأ البعض الأجواء بكاء على إهدار الأخلاق وضياع الحشمة وانتشار الرذيلة، ووجه برقيات الشكر والتحايا لقواتنا البطلة التي طاردت فلول المسيحيين وهجرتهم من مدينتهم الحبيبة، ومن حقنا الآن أن نسألهم لماذا صمتوا هم يرون أبناء هذه البلاد من ايزيديين ومسيحيين وصابئة يطردون من بلادهم تحت سمع وبصر أحزابنا الدينية التي ترفع شعار مخافة الله.
واسأل السيد القبانجي هل انتهينا من مؤامرات الطائفية والتهديد بالحرب الأهلية.. وهل تحققت مطالب الناس بالعيش في بلد امن ومستقر؟ وهل نحن في ظل نظام سياسي يضمن حقوق جميع العراقيين بكل طوائفهم وانتماءاتهم وقومياتهم؟ وهل تجاوزنا كل الفخاخ التي ينصبها لنا كل يوم مثيري الفتنة الطائفية؟ لتخصص منبرا هاما -منبر الجمعة- لتفتح فيه مزاد الهجوم على النشاطات الفنية.. هل نطرد كل من يمارس الغناء والفنون من جمهورية العراق الفاضلة ونقوم بوأد من تسول له نفسه سماع أغنية او الإعجاب بفعالية موسيقية؟ أم هل نخصص لهؤلاء جزيرة لكي ننفيهم فيها من اجل صلاح البلاد والعباد.
السيد القبانجي.. ان ادارة دولة عصرية لا يتم من خلال الخطب والشعارات.. فقد اكتشفت الناس أن مسؤوليها وسياسييها لا يصلحون لإدارة دكان صغير فكيف ببلد بحجم وتاريخ العراق الذي لم يقرأ احد منهم تاريخه بإمعان.
مرة أخرى: ماذا يريد السيد القبانجي؟
[post-views]
نشر في: 1 مارس, 2013: 08:00 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 5
كاطع جواد
الدعوة الى أسلمة المجتمع واعني هنا تغليب ثقافة الخطب العصماء والأدعية الصباحية والمسائية وجعل الناس عبارة عن أشخاصا فاقدي الاهلية لا يفكرون ولا يقرروا ماذا يفعلون مادام السيد القبانجي وأمثاله متواجدين فهو من يرسم لهم طريقة عيشهم وأساليب حياتهم متناسيا هذا
أبو محمد
هذه هي مشكلة ذوي الرؤية الأحاديّة الذين يظنون هم وحدهم يمتلكون الحقيقة ولهم وحدهم حقّ الوصاية على الآخرين غفر الله لهم ، ماذا نقول أكثر من ذلك يا أستاذ
علي الجنابي
هذه هي مشكلة العراق الجديد.. وكأن النجاة في هذه الدنيا بطول اللحى ولبس جلباب الدين ورجم الغناء والفن وأهله كونه رجس من عمل الشيطان.. أما سرقة البلاد وثروات العباد فهذه لازالت محل نظر عندهم..
حيدر العراقي
اثبتت الدراسات الطبية والعلمية التي خلص الى نتائجها مختصون؛ ان استماع الطفل بصورة متواصلة الى الموسيقى في مقتبل حياته، يؤدي الى تطوير دماغه وتحفيزه على النمو؛ وتهيء له النبوغ و محاولة الاصرار على الابتكار في صباه و شبابه وبقية حياته حيدر العراقي ـ بغداد
ابوذر ياسر
مقال ممتاز رغم ان العنوان غير موفق لان الذهن ينصرف الى احمد القبانجي باعتباره رجل اللحظه الراهنه بالنسبه للكثير من المثقفين العراقيين...............تحياتي لكاتب المقال ولجريدة المدى