لا يتأتى للناس في كل وقت "رؤية الواقع كما هو، دون زيادة ولا نقصان". هذه قدرة تنتسب، على ما يبدو، الى مرحلة عقلية متقدمة في حياة الأفراد والشعوب. و"المشكلة"هي انه من دون هذه القدرة يمكن للفرد أن يأخذ مقلبا بنفسه، فيظن أنه وحيد عصره، مع انه ليس في الواقع كذلك، وانما في خياله فقط لا غير. الجماعات، أو الشعوب، كذلك يمكن أن تأخذ مقلبا بنفسها، فتظن انها في أفضل حال، بل و"ذات رسالة خالدة"، لكن أيضا في خيالها فقط دون الواقع.
وتُعَرَّفُ العقلانية بأنها "رؤية الواقع كما هو". طبعا لا يمكن اختزال "البلية" المسماة بالعقلانية بهذه الكلمات الأربع. فلنتفق اذن على ان هذا هو أحد تعريفاتها فقط. وهو تعريف غير قليل. فمن يزعم أنه يعرف نفسه كما هي؟ ومن يدعي معرفة الواقع من حوله كما هو؟ ان معارف الذات والآخر والواقع هي مدار علوم الانسان والمجتمع والفلسفة والآداب والفنون. مدار كل "الثقافة" الهادفة الى "فهم الانسان كما هو".
وهكذا يمكن القول ان شغلة هذه العقلانية شاقة وأحيانا مستحيلة. انها ليست بالسهولة التي يبدو عليه تعريفها ذو الأربع كلمات. جرِّب أن تحاول معرفة أجوبة الفلاسفة على سؤال ( ماذا يريد الانسان؟)، وهذا سؤال من أهم الأسئلة المُعَرِفة بماهية الانسان، وستجد أن الأجوبة مختلفة اختلافا شديدا وأحيانا متعارضة، وبعضها لا يكاد أن يُفهم.
لكن خارج هذا "البطر المعرفي"، أو ما يمكن أن يبدو أنه كذلك، هناك دائما حدود دنيا للعقلانية. وهذه يمكن أن تعرف بالفطرة، أو بالخبرة، أو بمستوى تعليمي معقول. والتاريخ يروي سير رجال بلغوا بالفطرة درجة رفيعة من العقلانية لم يصل اليها رجال ذوو مكانة في تاريخ الفكر. وقارن على سبيل المثال بين رجل مثل الملك عبد العزيز آل سعود، الذي لم يدرس ولم يعرف الغرب يوما واحدا في حياته، وبين مفكر وسياسي كان قد دار العالم مثل ميشيل عفلق. وستجد أن الأول، رجل الفطرة السليمة، "فلتة عقلانية"، في مقابل "فلتة طوباوية" يمثلها الثاني.
"المشكلة" مع غياب العقلانية بحدودها الدنيا تكمن فيما يستتبعها من غياب للحقيقة وتعد على الحق. انها ليست مشكلة نظرية فقط وانما عملية أيضا ويمكن أن تؤدي الى نتائج لا حدود لخطورتها على حياة الشعوب ومصائرها.
انظر الى "النازية". انها مثال متطرف على الأفكار السياسية التي تقف على طرف نقيض تماما مع العقلانية، وكيف أدت الى أوسع دائرة قتل ودمار في تاريخ البشرية. وانظر اليوم الى هذه الحمى اللاهبة التي تسمى "الطائفية". انها هي الأخرى مثال متطرف على الأفكار السياسية المتعارضة مع العقلانية. ونحن غاطسون فيها الى الركب. الطائفية كالنازية هي عقل جماعة لا عقل لها. انها حمى مدمرة تحتل أعماق المؤمنين بها وتصعد الى رؤوسهم فتطيح بعقولهم، ويا ويلك ويا سواد ليلك اذا تحكمت وأصبحت سياسة وسلطة وحكومة.
ما الطائفية؟ ما مغذياتها؟ بأي أحزاب وتنظيمات ومعتقدات تتمثل؟ ما حجمها في السياسة؟ ماذا فعلت وماذا تفعل والى أين ستقود البلد، وماذا سيكون مصيرها؟
السياسة والثقافة عندنا لم تجهدا نفسيها بعد في مناقشة هذه الأسئلة مناقشة عميقة مثمرة. والى أن تفعلا ستظل "رؤية الواقع كما هي" متعذرة. وستظل السياسة كما الثقافة "ناقصة عقل ودين".