البضائع المحلية هي نوع من الرموز الثقافية المعبرة عن "الهوية". يشمل ذلك حتى المشروب الروحي المعروف باسم "العَرَق". أظنكم لا تجهلونه. بل أظنكم تعرفونه خير معرفة، ولن تنسوه، رغم "الهوايل" التي ارتكبها ضد محال بيعه تنظيم "القاعدة" وأشقاؤه المساوون له أو المقلون عنه في التطرف من ميليشيات وتنظيمات "الاسلام السياسي".
عندما لم يكن هناك شك في وجود العراق بأي معنى من المعاني المتدرجة من الأعماق الى السطوح، وعندما لم يكن مثل هذا الشك موجودا بين موضوعات الفكر، كان "عرق العصرية"، المنتج محليا، سيد "المشروبات الروحية" في الحانات والبارات العراقية. وذلك الوقت ليس بعيدا، بل لا يزال قريبا، وأخضر يانعا في الذاكرة. فسبيعينيات القرن العشرين لم تدخل التاريخ، ولا انطوت صفحتها بعد، حتى عند الجيل الذي لم يعشها، لكن لابد أنه عرفها، عبر طرق النقل والرواية من الموشكين على الغروب أمثالي الى المشرقين من أبناء الجيل الجديد، الله يحفظهم ويديم عليهم جمال الشباب وعزته وتوقده وابداعه.
لكن "عرق العصرية" أو "المستكي" أو أي عرق محلي آخر، فَقَد اليوم ليس مكانته العليا في البار العراقي وحدها، بل فقد وجوده أصلا. في البار العراقي لا يوجد عرق عراقي. تصوروا! وهذا ليس بفعل الحكومة. لا أبدا. ولا كذلك بفعل "الإسلامية". وبمناسبة هذه الكلمة الأخيرة، أذكر ان أحد الراكبين في حافلة عامة أيام السبيعينيات شكا بصوت عال قائلا:" ما ظلت إسلامية". فتجاوب معه كهل قائلا: أي والله عمي فعلا ما ظلت اسلامية. ورد عليه الشاكي قائلا: عمي أي اسلامية.. انهم يغشون حتى العرق!
وكان كل منهما يعني بـ "الاسلامية" الاسلام. وكان كل منهما مسلما على طريقته. وكان ذلك قبل أن تنتاب الدنيا موجة الاسلام السياسي، وقبل أن يتكون الفرق بين المسلم وبين "الإسلامي". وهو فارق جذري غالبا، وبسيط نادرا. ومن هذا النادر البسيط الاسلام السياسي التركي، الذي حافظ على كرامة "العَرَق التركي"، واحتفظ له بموقع الصدارة في البار التركي، سواء كان ذلك البار معدودا في الخمس نجوم أو الخالي من أي نجوم.
وأشهر أنواع العرق التركي هو "الراكي". وربما كان العراق هو أصل تسميته. وقد أخبرني الزعيم الأصولي المعروف حسن الترابي يوما بأنهم في السودان يسمون منتوجهم المحلي من العرق "عَرَقي"، نسبة الى العراق. وأول مشروب روحي، على أي حال، كان من مكتشفات العراق القديم. لكن الأسلاف نسوا كل ذلك اليوم، وطردوا العرق من باراتهم، وأحلوا بدلا منه أنواعا من العرق التركي واليوناني والى حد ما اللبناني. وهذه الدول الثلاث، الى جانب الأردن واسرائيل وقبرص وسوريا قبل الثورة، حافظت جميعا على كرامة انتاجها المحلي من العرق، ومازال معدودا عندها من الرموز الصناعية والتجارية والثقافية المعبرة عن الهوية الوطنية.
وهذا مع العلم ان أصحاب الخبرة يرون عَرَقَنا مميزا، وأصحاب الغربة يجدونه وطنا. لكن ماذا تفعل وقد انقلب عاليها واطيها، ولم تعد هناك "اسلامية" بعدما عصف الفساد بالبلد. والفساد قد يكون سبب اختفاء العرق المحلي من معظم بارات بغداد. اذ ربما كانت أرباح استيراد الأنواع الأجنبية أكبر. وقد تكون هناك أسباب أخرى. الله أعلم. لكن تَقَبُلَ هذه الظاهرة أمر سيء، تجاريا وصناعيا، وثقافيا بشكل أخص. فهذا التقبل هو على نحو ما موقف غير كريم تجاه النفس، وتجاه المحلية، وتجاه درجة التقدير للرموز الثقافية، او المعنوية، المعبرة عن الهوية الوطنية. فكلما تناقص تقدير المواطن لنفسه قل تقدير أشياء ورموز وطنه. كما ان بخس قيمة الصناعات والرموز المحلية تحصيل حاصل لقلة تقدير الوطن لمواطنيه.
جميع التعليقات 3
smh
اكيد تريد تنسى الضيم وحنين للشباب المضى
shatha
all the men in al mada they shouldbe drunks when they write about iraq congrats fakhry kareem (iraq be khair)
basil
الاسلاميين الذين يحكمون العراق الان حتى الله باكوووووووو