بينما يشحذ السنة والشيعة سكاكينهم في رقاب بعض، داخل ذروة اصطدام كريه يلهو به الساسة ويدفع ثمنه جمهور خاضع للتنويم، أجد نفسي مع اصدقاء لبنانيين من كل الطوائف وبحارنة وعراقيين وإيرانيين في دير مسيحي بأنطلياس شمال بيروت، يقوم بتكريم عبد الجبار الرفاعي ومشروعه "قضايا إسلامية معاصرة" الذي تكفل بنقل فكر التجديد الاسلامي خلال ربع القرن الاخير من قم حتى كازابلانكا.
وهذا المشروع العراقي كان محظوظا هذه السنة، فالمعهد البابوي في روما خصص كتابه السنوي لترجمة ابحاث كثيرة نشرها الرفاعي خلال مشواره المليء بالحذر والمغامرة ومواجهة التشدد الفكري، والحركة الثقافية في انطلياس اختارته مع المفكر الفلسطيني انطوان زحلان لتكريمه في جلسة دافئة ضمن مهرجان الكتاب اللبناني السنوي.
وفي مدخل الدير المسيحي حيث نظمت المناسبة، كانت صحيفة "المدى" حاضرة وسباقة وملحقها الخاص عن الرفاعي توزعه الآنسات على الحاضرين، فحين سمع فخري كريم بالحكاية أبى إلا أن يكون هناك احتفاء عراقي داخل النشاط اللبناني. يسار ديمقراطي عراقي يتشارك مع دير مسيحي لبناني للاحتفاء بمشروع ديني ولد داخل الحوزة العلمية وانتشرت دعواته وأسئلته داخل لحظة صدام هويات رهيبة افتتح بها اسامة بن لادن الالفية الثالثة بانتحار سماوي في سماء نيويورك، تبعته انتحارات لا تنتهي في قلب بغداد ولاحقا في قلب كل مدن المنطقة الكبرى.
الرفاعي تميز بصراحة كبيرة وهو يسرد سيرته الفكرية امام الجمهور المتنوع الذي انصت لشهادة بليغة عن جيل احلام ويأس وحروب بلا نهاية. كيف بدأ يقرأ سيد قطب في شبابه، وكيف تحول الى "قنبلة موقوتة" يحلم بتغيير العالم، لولا يقظة عقلية وروحية جعلته يعثر على اسئلة اللاهوت الجديد ويتبناها باحثا عن "اسلام مختلف".
الرجل اختصر الحكاية بالتالي: الانسان لم يكن له اثر في معظم ادبيات الاسلام السياسي الذي كان يريد ان يحول الشباب الى جيش يدافع عن الله. لكن نكتشف لاحقا ان الله اقوى من ان يحتاج دفاعا، وعلى اللاهوت والفكر الديني ان يعثرا على طريق للدفاع عن الانسان واكتشاف عناصر الرحمة وقيم الاخلاق داخل الدين لتحويلها الى قواعد تنشر السلام وتخفف من آلام الحياة.
السيد هاني فحص ببلاغته الفريدة عبر عن الحكاية بطرافة عميقة مخاطبا الرفاعي: احمد الله الذي حررك من العمامة وحررها منك. اما مجيد مرادي الكاتب الايراني الاصلاحي فشكر باسم مثقفي ايران الرفاعي الذي كان اول من ترجم بأمانة الى العربية اطاريح عبدالكريم سروش وجيل النقد العميق الذي ظهر في ايران. مرادي حمد الله ايضا ان الرفاعي لم يتحول الى زعيم متطرف وان اسئلة التجديد عثرت عليه لتهدي لايران والعرب حلم تسامح ديني قد يرسم ضوءا للمستقبل. ولم يغفل الكاتب الاصلاحي ان ينبهنا الى ان هذه القاعة احتضنت رئيس ايران السابق محمد خاتمي يوم كان يجول البلدان للتبشير بحوار الحضارات وبعهد من نزع التوترمن دون يدري ان كل وحوش التشدد تستعد لنهش الاصلاح واحلامه في ايران وحواليها.
المناسبة تضمنت كذلك تكريم الفيزياوي الفلسطيني انطوان زحلان الذي انشغل في نصف القرن الاخير بمحاولة استكشاف مستقبل العرب، ولا يزال يسأل اليوم: اين هو مستقبلكم؟ وهو ينشد بعد ان بلغ الثمانين بيتا لزهير ابن ابي سلمى:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعشْ
ثمانين حولاً لا أبا لك يسأمُ
يقول: تخرجت من الجامعة في الاربعينات يوم لم يكن للعرب سوى ٨ جامعات، وقد بات لديهم اليوم ٤٠٠ جامعة و٢٠٠ الف عربي حامل لشهادة الدكتوراه، لكن المستقبل لا يزال غامضا صعبا برهانات صعبة.
الاسلوب اللبناني في الاحتفاء بالكتاب والمفكرين يذهلني، انا القادم من قيصرية شارع المتنبي المثقلة بالشعر والجدران الايلة للسقوط وتاريخ الوراقين العباسيين الذين لاتزال اشباحهم حزينة تحوم على خرائب العراقيين. اما في لبنان فلم يعبأوا بألف سنة ضاعت بل حافظوا على تقاليد ثقافية مستمرة في الدير المسيحي منذ ١٨٠ عاما، وكتبوا على الجدار بخط اليد اسماء ٢٠ مفكرا وشاعرا لبنانيا رحلوا العام الماضي. وراح اب مسيحي يتلو صلاة في ختام المناسبة يدعو فيها للعراق بلد الرفاعي ولفلسطين وطن زحلان، أن يشفيا من وجع التاريخ لتعود بغداد قطبا معافى كما كانت. وانا اسأل: متى كانت بلا وجع؟ كما يسأل جيلي الذي قال الرفاعي بأنه متهم بجعله يخرج عن قواعد الاسلام السياسي، وينخرط في "شطح" أعمق مما ارادته مجلة "قضايا اسلامية معاصرة" التي ساعدتني وساعدت الكثيرين على تصحيح اسئلتنا مبكرا، رغم اننا لم نعثر على إجابات شافية بعد، وصرنا نتحدث عن تصالح وسلام ضروريين يسخر منهما عرب الألفية الثالثة الخاضعين لتنويم ثقيل ثقيل في "مستقبل انطوان زحلان".
جميع التعليقات 1
ملاك
لم تكن لدي أية معلومة عن الدكتور الرفاعي..سعدت فخرا بما نشر عنه وما عرفت وقرأت من سيرته عبر بوابة عراقيون ومقال الطائي.. كل ماينشر هذه الأيام يدعو الى الوجع الا مانشر عن الأستاذ الرفاعي فأنه يدعو الى العافية.. شكرا لكل من ساهم بعافيتنا