كان الشاب جالسا عند أريكة في حديقة عامة عندما حياه صديقه الكهل وجلس الى جواره. تبسم كل منهما في وجه الآخر، وبدا كل منهما مفتوح القلب تجاه الآخر، وتجاه المحيط الأخضر حولهما، وتجاه الجو الذي كان عذبا هادئا. وعلى غير عادته لم يبادر الشاب الى الكلام في الدقيقة الأولى ولا الثالثة، فشعر الشيخ بأن صديقه الشاب أراد في ذلك اليوم أن يترك المبادرة له، ولعل ذلك طاب له فأخذ يتحدث لكن كأنما الى نفسه لا الى صديقه.
- في طفولتي اتخذت قرارا بالفشل ونجحت. وفي شبابي اتخذت قرارا بالنجاح ونجحت. لكنني لم أثق بأن القرار الواعي الذي اتخذته في المرحلتين كان اختيارا خالصا، جاء على هواي، وتوافق مع شخصيتي. فالقرار في الحالتين لم يكن نابعا من ذاتي، ولا معبرا عن نفسي، وإنما كان صنيعة أسباب خارجية.
في الصف الثالث الابتدائي كنت الأشطر بين أقراني. كنت متأكدا من ذلك، وقد سلَّم الزملاء بتلك الحقيقة وصاروا يتعاملون معي على أساسها، بطلب مساعدة في الدروس أو بتقدير أو حسد. تقلدت شريط "فارس الصف"، وعرفت للمرة الأولى متعة التفوق. وكانت المرة الأخيرة. كنا لانزال في الفصل الدراسي الأول. وجاءت نتائج امتحانات ذلك الفصل فإذا بي الثاني! صعقت. فالذي حصد المرتبة الأولى كان دوني، لكن المعلم كان صديقا لوالده.
شعرت بالظلم شعورا قويا. لم أحتج، ولم أعبر عن ذلك الشعور بشكوى أو غضب. لكن السخط سكنني وقررت التراجع، ليس عن موقع الأول على الصف حسب، وانما عن كل مواقع النجاح المميزة، الثاني أو الثالث. لقد قررت الفشل. وترجمت ذلك القرار بالتحول من تلميذ متفوق الى تلميذ عادي.
صحب ذلك تغيرٌ متعمدٌ آخر في شخصيتي. فقد تجاوزت الخجل وأصبحت جريئا، وربما وقحا بعض الشيء، أرتكب بعض المخالفات، ولا ابدو مباليا اذا اشتغلت عصا المدير او المعلم على كفي. بل لعلي كنت أُسعد. ويمكنك وضع ذلك التحول في السلوك في اطار قراري الذي اتخذته بالفشل. كلاهما كان رد فعل. وظل التلميذ العادي، الوقح بعض الشيء، معي الى مرحلة الشباب المبكر. ثم استعدت الخجل يوما بصورة مفاجئة، واستأنسته. كما استعدت الرغبة بالتفوق أيضا، في مرحلة الدراسة الجامعية، واتخذت قرارا بالعودة الى موقع الأول على الصف، وفعلت، لكن من دون رضا بالنجاح أو استئناس له ولا استمتاع بنتائجه.
وكما لم يكن قرار الفشل ذاتيا خالصا كذلك جاء قرار النجاح بنسبة كبيرة من الخارج. جاء تعويضا عن سلسلة خيبات من انهيار أوهام الشباب الواحد بعد الآخر، وتكسر أجنحة الطيران المؤدية للإنتساب الى عائلة أو سرب أو جماعة أو حزب. جاء تعويضا عن فشل في الانتماء، الانتماء الى أي شيء يحميك من وحدة الوحش.
سَأَلَ الشاب: وهل تلقيتَ ثمرة نجاحك؟
- لا. وقد لا يكون هذا مهما. إن من يخسر العدالة في طفولته لن يجدها في بقية عمره. لكنه قد يتعلم ويكتسب حس العدالة.
* وهل فعلت.
- لا أدري. لم أتحرر من وحدة الوحش حتى أدري.
نهض الشيخ وودع صديقه باسما. ولم يُعرف ماذا دار في خلد الشاب من خواطر عن حديث صاحبه. لكن كان ظاهرا على قسمات وجهه أنه لم يعتبره حديث خرافة.