نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله وعجزة عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتيه خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجز عن مواجهة واقع يسير بنا إلى الخلف، مسؤولون يعتقدون أن المايكرفون يعطيهم فرصه ليخدعوا الناس، وليخفوا وسط ضجيج الخطابات ملامح العجز الممتدة في مدن وقرى العراق.
كان هنري كيسينجر يميّز بين المسؤول الحقيقي والمسؤول الساعي إلى النجومية، الأول هو الذي ويعمل من أجل الناس بصمت، والثاني مصاب بهوس الميكرفونات والصراخ، لذلك يمضي الأول عمره في تحقيق الانجازات، ويمضي الثاني حياته يصرخ كلما وضع مايكرفون أمامه.
كلما أنظر إلى وجوه ساستنا أتذكر التجارب التي خاضتها الشعوب للتخلص من ثقافة المايكرفون، واتساءل كيف استطاعت بلدان مثل سنغافورة والصين والبرازيل ان تحقق كل هذا التطور في سنوات معدودات؟ قبل أيام وقع في يدي كتاب "أفكار من العالم الجديد" أصدره المركز القومي للترجمة في القاهرة، الكتاب يتناول الأسس التي قام عليها التطور في بلد مثل الصين، التي لم يتوقع باني سنغافورة لي كوان، أن تنافس يوماً أميركا على المكانة الأولى في العالم لأنها حسب قوله انذاك، كانت دولة ينخر فيها الفساد، ولا رقابة حقيقية على سرّاق أموال الشعب، فما الذي حصل، يخبرنا لي كوان في مذكراته، كيف استقبل ذات يوم الزعيم الصيني دينغ شياو الذي جاء في زيارة لسنغافورة ليكتشف بنفسه سر تطورها وبعد أسبوعين قال لمضيّفة كوان: أعتذر إذ أقول لك بأنك لم تكن صريحاً معي، لا بد أنك تخفي سراً، كل ما في الصين أرخص سعراً من هنا. الأرض والطاقة والماء واليد العاملة. فلماذا تنجحون أنتم ونفشل نحن؟ ما هي الوصفة السحرية التي استخدمتموها.، يخبرنا لي كوان إن الرئيس الصيني كان ينتظر منه خطبة عصماء في السياسة، لكنه اختصر النجاح بكلمات قليلة، وهي حب الحياة، السعي لمعرفة كل شيء، والأهم الإيمان بقدرة الإنسان على صنع المستحيل، بهذه الوصفة استطاع لي كوان أن يحول سنغافورة من مستنقع فقير إلى قوة اقتصادية كبرى، أفكار لي كوان ألهمت دينغ شياو لكي يبني الصين الجديدة.. ويشرح لنا مفكر صيني اسمه "واي.. واي" الأسس التي وضعها دينغ شياو والتي قام عليها التطور الحديث في الصين، التي تتلخص في: أولاً: الواقعية قبل الشعارات.. أي الإيمان بقدرة حقائق الواقع على أن تشكل التغيير ومبرراته، بديلاً عن إيهام الناس بخطب غير واقعية.. وبحيث تكون أقوى من أي شعار. ومن ثم فإن تلك الواقعية هي التي حددت طرق التنمية اعتماداً على التحديث والمحاسبة.. ثانياً: المهم هو الشعب، وتلبية احتياجاته بأي طريقة.. وبكل السبل.. ثالثاً: الإدارة الجيدة بديلا عن الإدارة الثقة.. رابعاً: تطبيق معايير الأداء على النخبة السياسية.. والتحقق من أنها تقوم بدورين أساسيين الأول هو معالجة مشكلة الفقر والثاني تحقيق النمو.
نقرأ تجارب الشعوب ونتحسر لأننا نعيش في ظل ساسة لا يريدون لنا أن نخرج إلى المجتمع المعافى، حيث يمكن للإنسان أن ينام على أصوات المصانع، لا أصوات الميكرفونات، العالم من حولنا يمشي ونحن أسرى شعارات سياسية عفا عليها الزمن، أعطينا الثروة والأرض فقررنا أن نطلق النار على التنمية والتطور والمستقبل، لنعيش في ظل مسؤولين يعشقون ضياع الأمل وإهدار الحاضر، لكي نعيش معهم في الزمن الميت، بلاد مثل الهند والصين وسنغافورة وماليزيا اصبحت بالمقدمة، ونحن لم نقرر بعد: هل نسمح للموسيقى والغناء أن تكون جزءاً من مهرجان بغداد، وهل يمكن للمدرسين أن يعلموا الفتيات الصغيرات، وهل يكون يوم السقيفة عطلة رسمية، أم أن يوم الغدير أحق بذلك؟
أعتقد أننا بأمس الحاجة اليوم إلى (واي.. واي) صيني ربما يستطيع إخراج النخبة السياسية العراقية من أزمة قصر النظر الذي تعاني منه، والأهم ازمة غياب الضمير، وحتى لا يضطر العراقي الى أن يقول في النهاية (وي.. وي)..
جميع التعليقات 5
أسماعيل المعروف
الأستاذ علي حسين المحترم : السلام عليكم : كان رائعا مقالكم بعنوان (بلاد المايكرفون ) حول توقف حركةالبناءوالاعمار في بلدنا العزيز الذي عانى ومازال يئن من وطئة تحكم سلطة فاسدة في زمام الامور لم أقرأ يوما كتابا عن تجربة الانسان الرائع ( نيلسون ماندلا ) في ا
حامد المختار
تحية طيبة.. المشكلة في سياسيي العراق الحاليين أن أغلبهم لايقرأون وإن قرأو فلن يقرأو تجربة الصين لأنهم يعتبرونها من دول الكفر والالحاد. كما أن ام المشاكل لدينا حاليا هي وضع الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب . لازلنا حتى اليوم نتبجح ونتفاخر بحضارة مضى
أبو محمد - كربلاء
لقد اختصرت كل شيء بكلمتين هما ( حب الحياة ) هم لا يقدسون إلا الحياة لأنهم واثقون من أن لا حياة سواها ونحن نعيش وعيوننا من طمع وجشع ترنو إلى ما بعد الحياة، ولا أريد الدخول في هذه الإشكالية التي لا تنتهي، لكن أود أن أقول: لو طلبت لأي مسؤول يقدس ( مسك الميكر
كاطع جواد
سيدي الكريم قرأت مقالتك مرتين والألم يعتصر قلبي لما عليه نحن .ياترى هل الخلل هو في عقولنا ام في ثقافتنا التي تشجع على الكسل والنفخه الفارغة ام ان هناك سر لا نعرفه ثم هل يتحمل المسؤول وحده هذا الواقع المر ام ان المسؤولية مشتركة تتقاسمها النخب المثقفة مع ال
علي الموسوي
أن مقالتك أيها الكاتب العزيز ما هي في الحقيقةإلا مقدمةلكتابة بنود وفصول كتاب التغير في العراق.التغير الذي نضجت تماماً ظروفه. وعلينا أن نعي تماماً بأن أي تأخيراً في ذالك ماهو إلا تسليماً ليس فقط بكل مقدرات البلاد ثانيةً بل بأعناقنا أيضاً لمن ينتظرون قطفه