تُمثل مباني مجمع "جامعة المستنصرية" في بغداد (1963-66) المعمار: قحطان عوني حدثاً مهماً في سيرورة العمارة العراقية ، فالمجمع كحدث معماري، هو في الاقل، من اوائل المجمعات التخطيطية الحديثة المصممة، كما انه الاول المصمم من قبل معمار عراقي، ان
تُمثل مباني مجمع "جامعة المستنصرية" في بغداد (1963-66) المعمار: قحطان عوني حدثاً مهماً في سيرورة العمارة العراقية ، فالمجمع كحدث معماري، هو في الاقل، من اوائل المجمعات التخطيطية الحديثة المصممة، كما انه الاول المصمم من قبل معمار عراقي، انه " الإنسامبل " Ensemble الرابع وقتذاك، في تاريخ العراق المعماري الحديث، منذ ان أعــدَّ "جميس مولسون ولسون" (1887-1965) مجمع جامعة"آل البيت" في الاعظمية سنة (1922-24)، ولحين اعداد "فالتر غروبيوس" مخططه لجامعة بغداد (1957- 60) في الجادرية، مروراً بمجمع مباني "السفارة الامريكية" (1955- 60) المشيَّد في كرادة مريم للمعمار خوسيه لويس سيرت .
تستقي، إذاً، عمارة الجامعة المستنصرية أهميتها وفرادتها بكونها مجمعاً لمبانٍٍ وليس مبنى واحداً، وهذا الجانب اتاح للمعمار امكانية منح كل مبنى من مباني المجمع لغته التصميمية الخاصة به والمعبِّرة عنه ، من دون ان ينسى بأنه يتعاطى مع استحقاقات مناخ معماري محدد تفرضه فكرة المجمع الواحد ؛ كاشفاً بذلك مقدرته المهنية في ايجاد حل مقنع للمعضلة التصميمية التى تصدى لها.. يعتمد مخطط الجامعة على وجود "شارع" رئيس، هو بمثابة العمود الفقري للمخطط ومنه تتفرع "أذرع" تصل الى اقسام الجامعة المختلفة. ثمة فصل واضح بين القسم التعليمي المخصص للقاعات الدراسية وبقية الابنية الساندة مثل المكتبة والمبنى الادراي ومقصم الطلبة والمختبرات العلمية التى وقعت منفصلة الواحدة عن الاخرى ضمن موقع الجامعة، لكنها متصلة فيما بينها ومرتبطة مع ذلك الشارع الرئيس.
يتوق المعمارعبر آليات " التناص " الى استدعاء مخطط "المدرسة المستنصرية" (1227-1233) العباسية القديمة (التي سُميت الجامعة باسمها)، بغية تشكيل تكوينات القسم التعليمي التى جاءت فورماته على شكل "فناء" مكشوف، يُحيط به شريط كتلوي تحتله فضاءات قاعات التدريس يذكرنا وجوده بعنصر"حوش" المدرسة البغدادية، وحتى لا يعطي المصمم انطباعاً بانه يقوم "باستنساخ" الحل التصميمي لذلك الحوش، شرع الى شطره من وسطه، قاطعاً استمرارية شريط كتل الاقسام التدريسية في ازاحة متقصدة، ما افضى الى معالجة تكوينية فريدة اتسمت بحضور رمزي لعنصر الحوش، الذي يشي بانتمائية خاصة للمكان، في الوقت الذي امتلكت الكتل المصممة بسبب تلك الإزاحة شكلا حداثيا معبرا، ولن يقتصر تأثير المعالجة التحديثية على المستوى الأفقي، وانما شمل ايضا المستوى العمودي، فجاء تشكيل صياغة الواجهات متكوناً من تكرارايقاع منتظم لقطع بنائية مرفوعة هي عبارة عن "شاشات"آجرية انطوت سطوحها على تجويفات ذات نقشات هندسية تراعي اشكالها أبعاد الطابوق المستخدم ، كما يحمي وجود تلك الشاشات فتحات النوافذ الواسعة المزججة لقاعات الدرس الواقعة خلفها، ويمنح حضور هذه الشاشات الطابوقية ذات اللون الاصفر المطعم بالواح فيروزية مع التطليعات الخرسانية التى تبرز خارج سطوح تلك الشاشات، يمنح الواجهات قيمة جمالية عالية اكسبتها خصوصية تكوينية متفردة تميزها عن بقية واجهات المباني الاخرى، كما تؤشرفي الوقت عينه وظيفتها كقسم أساسي سهل التعرف عليه ضمن اقسام الجامعة الاخرى.
عندما تم اجتراح جدار المختبرات في مجمع الجامعة (مثله مثل معالجة جدران ابنية أقسام آخرى)، تفاجأ الوسط المعماري المحلي لنظارة اشكال الجدار الطابوقي "الآجري"، وطريقة رصفه الداخلة والخارجة، والتي منحته شكلا فنياً معبـِّراً مفعماً بحضور مميز لحالات خاصية الظل والضوء التى تخلقها تناوبات رصف الآجر المختلفة، وعـُـدَّت وقتها تلك المعالجة احدى "كشوفات" مكتب قحطان عوني المهمة والرئيسة، التي وجدت انعكاساً وتكراراً لها في كثير من التصاميم العائدة الى المعمار ذاته او في اعمال مقلديه، والأمر هنا لا يرتبط في حذاقة ممارسة العمل المهني للجدار او يتعلق في مهارته الحرفية التقليدية؛ بقدر ما تعني نتائج تلك الممارسة التى اجتهدت في "تحويل" سطح الجدار ثنائي الأبعاد الى كتل بأبعاد ثلاثية، محتفية باستيلاد تنويعات فريدة لخاصية الظل والضوء، جاعلة منها ضربة التكوين الرئيسة، والخاصية الأكثر إثارة وفنيـة فيه.
والمعمار "قحطان عوني" المولود في 1926ببغداد، الذي فُجِع بوفاته المبكرة والمفاجئة الوسط المعماري والمهني العراقي سنة 1972(إثر نوبة قلبية)، درس العمارة في بيركلي بالولايات المتحدة الامريكية مابين (1946-51)، ثم أسس مكتباً معمارياً خاصاً به مع زملاء معماريين آخرين عند عودته الى الوطن عام 1952، صمم مبانيٍ ذات وظائف متنوعة، في مناطق مختلفة من العراق، تعد، في رأيي، من خيرة ما انتجه المنجز المعماري العراقي الحداثي - وسنعود الى منتجه التصميمي، مستقبلا، في حلقات آخرى من هذه الزاوية- صمم مستشفى سلمان فائق (1956)، بالعلوية ببغداد، والمدرسة الثانوية للبنات في الصويرة (1961)، ومبنى ناجي جواد الساعاتي (1962) في شارع السعدون ببغداد، ومبنى بلدية النجف (1964)، وفندق سياحي في الكوت (1964)، وبناية الآلات الحاسبة لمصلحة الكهرباء الوطنية (1965) في الميدان ببغداد، والقسم الداخلي للبنات (1967) في باب المعظم، ومبنى التأمين الوطنية (1967) عند ساحة النافورة ببغداد، ودارة المعمار (1968) في الوزيرية (اُزيلت مع الأسف)، والمبنى الذي شغلته السفارة السعودية (1970) في المنصور ( اُزيل هو الآخر، مع الاسف الشديد) ودار سكنية (1970) في المنصور (في مراحل التهديم، مع الاسف الشديد!) وغيرها الكثير من المباني الاخرى.
*معمار وأكاديمي