مسار التغير السياسي الذي ابتدأ في العراق منذ عشر سنوات ، يحمل اليوم رسالة بمنتهى الخطورة ، هي أين وصلنا في البناء الجديد للدولة العراقية ؟ ورغم الأحكام المسبقة التي غالبا ما تمس حسنا الأخلاقي المتضمن التعقل والانتظار ضمن هموم ثنائية ( حفظ
مسار التغير السياسي الذي ابتدأ في العراق منذ عشر سنوات ، يحمل اليوم رسالة بمنتهى الخطورة ، هي أين وصلنا في البناء الجديد للدولة العراقية ؟ ورغم الأحكام المسبقة التي غالبا ما تمس حسنا الأخلاقي المتضمن التعقل والانتظار ضمن هموم ثنائية ( حفظ الأمن – منع الموت ) ومنح الفرص السخية لتحقيقها ، إلا أنه بات وهما أن نعتقد أن ضجيجا هنا أو هناك يمكن أن يحول انتباهنا عن وجود وجهة نظر متشائمة تجاه بناء دولة رشيدة ، وأن تقبل فكرة أن نتحول من مأساة الدكتاتورية إلى مهزلة الديمقراطية أصبح في مطلق الأحوال أمراً له تأثير صارخ ومؤلم على أنفسنا ، لاسيما وأننا غير مستعدين لانتظار سنوات إضافية لتحقيق مناخ قانوني يحكم تنفيذ قرارات تتخذها الدولة لضمان عدالة اجتماعية ، مما يستدعي إعادة النظر ببناء الدولة المتآكلة حاليا التي تم وضع أسسها الرملية من قبل المحتل بعد إسقاط النظام السابق في 2003 .
إن فهمنا بناء الدولة مستند لأفكار متعارف عليها في السياسة ، وبقدر حاجتنا إليها فإن الهدف الاجتماعي يمثل غاية باعتباره عملية تنموية اجتماعية تستغرق زمنا طويلا وتتيح للمجتمع المفكك أن يتوحد ليتطابق مع الدولة ، وهذا غير الهدف السياسي الذي يهدف إلى تقوية النظام بمواجهة الخصوم .
وجهة النظر الحديثة التي جاء بها منظرو البيت الأبيض الأمريكي تعتقد أن بناء الدولة في عالمنا الثالث هو إنشاء مؤسسات حكومية ، لاهتمام المجتمع الدولي بذلك ، فالحكومات الضعيفة في مؤسساتها هي مصدر مشكلات عالمية ،كالفقر والتطرف والإرهاب ، وهذا ما يهددهم ، ولأن الضعف في بناء الدولة بالنسبة لهم هو ضعف القدرة في فرض القوة المؤسسية والعيب في المؤسسات التي تمثل القوة.
في الدولة العراقية الفتية تمأسست بنى وهياكل غير كفوءة صعدت إلى قمة الهرم الإداري بقوة وأدارت المؤسسات الحكومية بقوانين مزدوجة ( وضعية – عرفية) ، وأصبحت قوة المؤسسة من قوة البنية التي تديرها ( عشائريا أو طائفيا)، ذلك أدى إلى حدوث أزمات متعددة ، هي نتيجة للصراع بين رؤى مختلفة وجدت كل منها أن لها الأحقية بإدارة الدولة العراقية، وهذه الرؤى :
الأولى : رؤية دينية منشطرة على نفسها جذبت الجماهير لتدين شعبي متطرف منغلق ، أضعف الاهتمام بالآخر كشريك في الوطن ( الطائفية).
الثانية : رؤية اجتماعية مقننة للحركة تمحورت حولها الجماعات فجذبتهم لنظام العصبية كقوة وشوكة بيد الدولة والخصوم على حد سواء ( العشائرية) .
تمأسست الطائفة وتمأسست العشيرة وأدارت المؤسسات الحكومية بفكرها وكفاءتها المتواضعة ، وقوة القرار الرسمي تزاوج مع فتاوى رجال الدين و حكمة شيوخ العشائر، تبعتها مأسسة المشاعر التقليدية ، ضمانة لحماية المفسدين ومكتسباتهم ، وبالتالي استمرار السلطة ، و هذه بداية مأزق الجمود الفكري في الإدارة وبداية تآكل الدولة.
الصعود الفكري غير المحسوب ، وضعف المؤسسات الحكومية أفرز الأزمات ، الثقافية والاجتماعية .الأولى تمثلت بانخفاض شديد بمستوى الوعي الاجتماعي سببه ارتفاع شديد بمعدل الأمية ، وتدهور التعليم الأساسي والجامعي فأصبح السلوك داخل المؤسسات وغيرها عبارة عن أمراض متوطنة وأخرى مكتسبة ولدت ثقافة مريضة من اللامسؤولية وعدم الانضباط والارتجال والعشوائية التي شاعت باتخاذ القرارات والسلوكيات الرسمية مع ضعف الرقابة وضعف الأداء المهني للعاملين بالمؤسسات الحكومية وحيث تتزايد وتترهل الأجهزة البيروقراطية لا نجد اهتماما لنتائج هذه السلوكيات مما يدل على جزئية التفكير المحددة بالطائفة أو العشيرة أو الجماعة المتحزبة.وبذلك تغيرت الاتجاهات وتغير السلوك وشاع التفكير الخرافي وغاب التفكير العلمي .
الأزمة الثانية هي الاجتماعية ، متمثلة بوجود فجوة واسعة بين من هم في قمة الغنى ومن هم في قاع الفقر، يشاركها حراك هابط للطبقة الوسطى ، مع انفصام بين ثقافة النخبة وثقافة الجماهير ، مضافا إليه تدهور مستوى الحياة مقابل معدلات صعود مهولة لمستوى الحياة في المناطق المغلقة الخضراء ، ونتيجة لهذه الأوضاع عكست الفئات الوسطى اتجاهها إلى الخلف ، وهي المحرك العاقل للمجتمع ونزعة إلى مغازلة الطائفية و العشائرية و مساندة الجمود والارتداد ،أما الأوضاع الاقتصادية فقد أصابت الكثيرين بالإحباط وفقدان الأمل في المستقبل نتيجة استشراء ظاهرات شرسة، كالبطالة والفقر والغلاء والتهميش .
هاتان الأزمتان شكلتا للدولة مأزق الثقة ، فبينما اتجه أفراد المجتمع للصناديق أملا بتحسين الأوضاع ، وجدوا أنفسهم اليوم على يقين من فقدان الثقة بالمؤسسات الحكومية والقائمين عليها ممن انتخبوهم فخرجوا ضد السلطة وضد المجتمع في آن واحد ، رافضين الانصياع للقرارات المؤسسية المزدوجة .
الجمود على فكر الطائفة والعشيرة كمؤسسات أصبحت تشارك القرار السياسي ، ومأزق الثقة الذي وقعت به الحكومة بخذلان المجتمع وعدم تحقيق حاجاته ، تؤشر المأزق الثالث وهو مأزق الفهم لمعنى التحول الديمقراطي من خلال الإصرار على نظام دستوري لم يثبت نجاحه وهو نظام المحاصصة الذي أفرز المأزقين السابقين و جعل النخب السياسية عاجزة أمام مشكلات تراكمت، وجميعها أصبحت مؤجلة ، لأن الموضوع لم يعد إصدار قرارات أو بناء مؤسسات حكومية جديدة ،بل يرتبط بصحوة ثقافية تتبنى تغيير ثقافة المجتمع المريضة وإعادة تشكيل وعي مؤسسي جديد وتغيير الممارسات الثقافية والاجتماعية سياسياً ، وإعادة بناء نسق القيم .










