يتساءل الصديق نبراس الكاظمي في مدونته ليل الخميس، عن سيناريو العنف الطائفي الأسود الذي بدأنا نخشاه حقا، ليسأل عن شكلنا في أول لحظات حرب محتملة. يقول "الحرب، إن وَقَعَت...ماذا سيسجل التاريخ عن الأسابيع والأجواء التي سبقتها، ومواقفكم واهتماماتكم خلالها؟".

بعد ساعات من قراءتي هذا البوست، كان هناك رجل دين حنفي يتحدث في كركوك بمستوى عال من الاعتدال ويخفف نار الانفعالات التي لمحناها في الأسابيع الأخيرة. وبينما يحاول رجل الدين هذا رسم ما يليق باحتجاج عراقي على ظلم حكومي يشمل في الواقع كل الاطراف، تورطت قواتنا بفتح النار على متظاهري الموصل، واعتقلت في الرمادي ضابطا سابقا وتجهزت لاعتقال سواه في الليلة اللاحقة. وبدل أن تشجع الحكومة اعتدال الطه، فإنها تجعل مهمته أكثر تعقيدا.

الشيخ احمد حسن الطه هو امام جامع ابي حنيفة، سافر الى كركوك وصلى الجمعة هناك وطلب في خطاب متوازن الحصول على دعم لمطالب المتظاهرين من "المسلمين والعرب والكرد والتركمان". وقد ذهب الشيخ إلى مدى ابعد وراح يحاول ضبط ايقاع النفوس. وراح يقول للآلاف "هنالك مدسوسون في التظاهرات يرفعون شعارات تسيء للوحدة ولرسالتنا السلمية، ونحن نطالب العقلاء بأن يوقفوا المندسين" وراح يفتي بتحريم ومنع علم الثلاث نجمات (المنسوب لزمن صدام حسين) او اي عبارات وشعارات تثير الآخرين، وقال عبارة مؤثرة "لا تثيروا الأعداء ولا تشقوا صف الصديق".

ان الشيخ الطه يريد ان يشجع العقلاء على تنضيج متواصل لخطاب التظاهر، لكي لا يسهل للخصم ان يستهدف الاحتجاج المشروع متذرعا بوجود شعارات ورموز عنفية او صدامية، او سيوف او رايات للقاعدة. كما ان هذا الشيخ يدرك ان كل شعار مسيء او مثير للانقسام يسبب حرجا لاصدقاء المتظاهرين من كتل كردية وشيعية شجعت اهل المنطقة الغربية على المطالبة بحقوقهم.

وحين لقي محتجون مصرعهم بنار قوات الأمن، اصدر زعيم التيار الصدري بيانا هو الاكثر وضوحا في كل ما قاله، دعا فيه البرلمان الى استجواب رجل الامن الذي كان وراء الاعتداء في الموصل. والى تشكيل وفد برلماني محايد للاطلاع على ظروف اعتصام نينوى وطريقة تعامل الجيش معه. ولو سارع البرلمان الى هذا قريبا فإننا سنكون أمام قاعدة جيدة لحماية التظاهرات.

كل من إمام جمعة ابي حنيفة، ومكتب التيار الصدري، قدموا نصحا قاسيا إلى الحكومة والبرلمان في لحظة تاريخية محاطة بسيناريوهات سوداء على وقع التناحر الإقليمي. وكل منهما انتقد جزءا من المتظاهرين يرفعون شعارات ورموزا مسيئة. الصدر قال بوضوح انه متحمس لحماية التظاهرات والوقوف الى جانبها، طالما بقيت بعيدة عن الإساءات التي تحرجه مع جمهوره وتضعف ممكنات التعايش الأهلي، وهو الذي غامر في لحظة تاريخية ووقف إلى جانب الاحتجاج، وتقبل على مضض هامش أخطاء المحتجين، مراهنا على أن التيار الأساسي معتدل، وان كل الأطراف ستفهم هذا في النهاية للوقوف بوجه الفريق السياسي والعسكري للسلطان، وهو فريق يدير البلاد بنحو خاطئ يضر الجميع وقد يقود إلى كارثة.

الصدر وأمام جمعة ابي حنيفة، تحدثوا أمام جمهور العراق بلغة موحدة تقريبا، تمثل المنطق الذي يحتاجه المتظاهرون لكسب اكبر دائرة تأييد لقضيتهم.

لكن المشكلة أن الصدر يظل وحده تقريبا فيما تبقى الأصوات المشابهة له خافتة، وفيما يظل الجميع غائبون الى حد كبير حتى التيار المدني العلماني الذي يجب أن لا يصمت في لحظات يحيطها سيناريو الدم.

كما ان الشيخ الطه يظل وحده تقريبا مع غياب الشيخ عبد الملك السعدي وهو المعتدل الأبرز الذي تناغم مع الصدر قبل بضعة أسابيع وخففا معا نيران الانقسام.

يريد الشيخ الطه وعبد الملك السعدي والصدر والعديد من الزعماء الشيعة والأكراد، أن يقولوا ان استبداد المالكي ليس شيعيا بل هو موجه للجميع. لكن مساحة من الفوضى تسيطر على أجواء التظاهر، وتقدم للفريق العسكري للسلطان خدمة كبيرة وهو الطامح الى تصيد اخطاء المحتجين لاعتقالهم وفتح النار عليهم.

والأزمة الكبرى هي عجزنا عن فتح قنوات تواصل معقولة. سنبقى بلا حوار وطني، منتظرين ان تحل الكارثة وحينها سنحاول احتواءها ثم سنشعر أننا تأخرنا، وسنعثر على حلول مكلفة، وسيسقط عراقيون كثيرون لا سمح الله بنار الجهل من كل الجبهات.

ان التحالف الذي تشكل الصيف الماضي بين أربيل والنجف، نجح في بناء جبهة وطنية معارضة لسلوك المالكي. لكنه تعرض الى اختبار قاس في ملف الموازنة، ادى الى اهتزاز العلاقة مع التحالف الكردستاني. وهذا توقيت سيئ سيكون مفيدا لاجندة المالكي، وسيكون شرا كبيرا يدفع ثمنه معارضو التفرد والاستبداد.

انني احاول ان اتخيل الصورة التي يريدنا نبراس الكاظمي رسمها لاستيعاب درجة الخطر. ومازلنا مؤمنين بأن البلاد قادرة على احتواء الخطر. لكن حصول صدع في جبهة التعدد السياسي، يؤثر بشكل ملحوظ، في تأخير الحوار الوطني. ويسمح لجبهة التفرد التي تشتهي الاستبداد ان تستغل غياب التواصل والحوار، لتزج بجنودنا في ازمة الاحتجاج.

قد لا تحصل حرب طائفية، ونحن قادرون حتى الآن على منعها، لكن المالكي يقوم بزج الجيش، وهناك احتكاك وخسائر، وانفعال غير مسيطر عليه، وانتخابات تلهب النفوس والأنانيات. وشعب مسكين في شرق اوسط مستعر. والامل لا ينقطع من ان نستعيد دروسنا السابقة، والمطلوب زيادة في سرعة تحرك العقلاء، ليسبقوا جيوش الحمق والارتجال.