هناك صحف عــدة في القطار؛ ومن شباك العربة يُمكن رؤية بناية لمصنع تختفي ذائبة في حركة سريعة، لتظهر مباشرة حيطان متهدمة من الآجر، ثم بيت صغير لحراس سكة الحديد، كما لو كان مشهداً في إحدى روايات ترومان كابوتة. الصحن الخلفي للبيوت التي يمر بها القطار مازال طراز بناء أركانها وواجهاتها هو طراز القرن التاسع عشر، وكأنه يُعلن لنا أننا نعيش فعلاً في زمن الركود و" اللاحركة" ، وليست الصحف المتناثرة فوق المقعد، هي التي تُثبت ذلك الركود حتى أن الجسم كله يركد كما لو شُل بسبب تلك " اللا حركة" التي تمنحها الأخبار المُرتبة على ورق الجرائد.
"لا تقدم في المباحثات بين أوباما ورئيس مجلس الشيوخ من الحزب الجمهوري"، منذ أشهر عــدة، نقرأ ونسمع هذا الخبر كما لو أنه يأتينا من الزمن البعيد، وكأن الزمن توقف عند الطاولة التي جلس إليها الرجلان متقابلين. "لا تقدم في المباحثات"، كانت هي الصياغة ذاتها لخبر آخر:
"ليست هناك حركة في المباحثات بين الحكومة المركزية في بغداد وإقليم كردستان" ـ هذا العنوان الكبير إنتسب شهوراً طوالا إلى تلك الأخبار التي كانت تأتينا على شكل رسائل من العدم. " كان هناك شيء ما، لكن لم يحدث أي شيء". الأشياء التي تحدث تختفي في زمن مكتظ بالمعلومات. وما كانت تريد وكالات الأنباء إعلانه هو غياب أية حركة ـ في لغة الصحيفة العربية الوحيدة بين صحف في لغات مختلفة تُترجم صياغة الجملة إلى جملة "لا تقدم في المباحثات"، اللغة العربية تفترض في " الحركة" "التقدم". بالرغم من ذلك إستمرت الحياة "المفخخة" في بغداد أربيل ـ مثلما تستمر "راكدة" في نيويورك وواشنطن ـ وفي كل مكان من العالم بصورة ما بالوتيرة ذاتها، حتى أن المرء كان يعتقد في حالة العراق بأن العالم يتحرك بإتجاه معين، بإستثناء مكان واحد: المنطقة الخضراء، وكأن نيزكاً ضرب المكان وجعل الزمن فيه يتوقف هناك.
اللا خبر، أو "اللاشيء من المعلومات" الأخرى تُرسل متفرقة ولوحدها إلى جهات متعددة من العالم، لتُثير حركات مختلفة، تخدع من أجل صرف الأنظار لبعض من الوقت، ولا تفعل شيئاً غير إضافة ركود إلى "الركود"، لهذا يُعلن من يطلق على نفسه " الإتحاد العام للأدباء والكتـّاب العرب" عن وجوده الشبحي بين الحين والآخر بإعلان حربه الوهمية " الراكدة" ضد "الإمبريالية والصهيونية"، ومعركته بـ"الدفاع عن الحريات"، عن طريق طرد هذا الإتحاد "الرسمي" أو ذاك من حضيرته (كأن الأمر يتعلق بحيوانات!) أو كما حدث الآن عن طريق إصدار بيانه الإستنكاري ضد تحقيق السلطات المصرية مع كاتب مصري بتهمة القذف بالدين، وينسى الاتحاد "المناضل" هذا، أن كاتباً سعودياً وآخر قطريا يتخمران منذ زمن في السجن، إذاً لا نتحدث عن قتل العديد من الأدباء في هذا البلد "العربي" أو ذاك، سوريا مثلاً؟
هنا " لا حركة"، "لا تقدم". الزوبعة، التي أشعلها هذا الخبر في حضيرة" الاتحاد" المهموم بتحرير فلسطين أكثر من إنشغاله بأمور تافهة كـ "الأدب" مثلاً ـ معاذ الله ـ تصاعدت أخيراً لتحرك " اللا حركة ـ الركود" المسيطر على المشهد السياسي لكتـّاب عاطلين عن الأدب، يرون العالم بالمقلوب مثل الخفافيش، يقضون ليالي طوالا بتدبيج بيانات مملة يُرسلونها عن طريق أسلاك التلغراف المعلقين فوقها!
لا أخبار... ترمي اليـد كومة الجرائد إلى جانب، وتنزلق العين من نافذة القطار: فوق موانع سكك الحديد وبين السكك ينمو زرع أخضر كساه الغبار، زرع وحشي، هو مثل قشرة الجرح التي تكسو البقع الميتة في الجسم، بالرغم من أنها ما زالت طرية بدت قديمة جداً وكأنها نمت منذ عهد تلك المرحلة، التي غزت فيها العالم السكك الحديد والفارغونات، كل شئ يترجرج يثير الحزن " لا حركة"، من الأفضل تفحص الجرائد مرة أخرى، لكن المسافرين في العربة إستعاروها؛ إنهم الآن يغطون في النوم، رؤوسهم مائلة مثل رؤوس الخفافيش.