وضع عام 2012 المحتضر نهاية لمغامرة الفيلسوف الفرنسي جاك دونت كواحد من أهم مفكري الجدل والصراع المعاصرين، بل انه كان بينهم، في رأينا الأكثر جذرية وتمرساً في التمرد على يقائن الايديولوجيا وعاداتها وأوهامها بكل تياراتها بما فيها الماركسية وخاصة هذه باعت
وضع عام 2012 المحتضر نهاية لمغامرة الفيلسوف الفرنسي جاك دونت كواحد من أهم مفكري الجدل والصراع المعاصرين، بل انه كان بينهم، في رأينا الأكثر جذرية وتمرساً في التمرد على يقائن الايديولوجيا وعاداتها وأوهامها بكل تياراتها بما فيها الماركسية وخاصة هذه باعتبارها الأعظم نفوذاً واعتداداً طوال القرن الاخير.
ففي العاشر من شباط من العام الماضي توفي جاك دونت عن 91 عاما في باريس المدينة التي شهدت لاسيما في الستينيات الماضية، معارك طاحنة ومباركة من كل نوع وضد كل سلطة وخاصة اذا كانت مقدسة حيث "نزلت الفلسفة من السماء الى الارض" ثانية، ولم يكن جان بول سارتر وما سُمي اعتباطاً بـ"الفلاسفة الجدد" الا الجزء الأكثر تهريجاً في تلك الانتفاضة الفلسفية التي كان ميشيل فوكو ولوي التوسر وجاك دونت من أهم رموزها معرفياً. هذا الثلاثي الاخير المتتلمذ على جان هيبوليت، اشهر هيغلي في النصف الاول من القرن العشرين، وفي الانتماء المبكر الى الحزب الشيوعي الفرنسي، ثم في مغادرته إثر انتفاضة باريس في 1968 عندما تقاعس حزب الطبقة العاملة الفرنسية ذاك عن مواصلة الاخلاص لهويته الثورية شأنه شأن معظم الاحزاب الموسقوفية الاوروبية والعربية التي افتضح ترهلها منذ تلك الفترة، لكن وبدلا من القطيعة مع الديالكتيك وحتى مع الفلسفة، كما فعل فوكو والتوسير وكذلك روجيه غارودي فيلسوف الحزب آنئذ، عاد جاك دونت الى الديالكتيك والفلسفة المحضة.
ودونت، عضو المقاومة الفرنسية ضد النازية، فيلسوف مأخوذ بدقة المفهوم، وهو امر نادر لا سيما في عصرنا الراهن حيث التعبير يترنح في كل الاتجاهات من دون اكتراث، وحيث الدقة ظاهرية في التدليل على المحمولات بما فيها الأكثر جوهرية ورصانة ، بل خاصة هذه ، وهذا الهم الذي رافقه منذ كتابات الشباب، خلق لديه نزعة تكاد تكون لا إرادية، في حب التدقيق وإعادته، هي في الاحوال العادية حكر على ندرة من الفلاسفة المتمرسين كان منهم باعتراف عالمي واسع وهو ما لاحظناه لأكثر من عقدي زمن من العمل معه، كان خلالهما رئيسا للجمعية الفلسفية الفرنسية ومؤسسا ورئيسا لمركز دراسات حول هيغل وماركس، ورئيسا لقسم الفلسفة في جامعة بواتيه التي عمل فيها رينيه ديكارت وروجيه غارودي وفلاسفة فرنسيين غيرهم من قبل.
لقد غـدا دونت وحتى الآن المرجع الغربي الأقرب الى الدواخل الحميمة للفلسفة الهيغلية، إذ نشر قبل عشر سنوات اول دراسة شاملة عن "سيرة هيغل" الحياتية والفلسفية لتصبح العنوان الجديد بين مؤلفاته عن ذلك الفيلسوف الالماني الذي سبق ان اصدر حوله العديد من الكتب الشهيرة في فرنسا والمانيا أبرزها "هيغل فيلسوف التاريخ الحي" و"أسرار هيغل" و"هيغل وعصره" و"من هيغل الى ماركس" و"ايديولوجيا القطيعة" و"هيغل فيلسوف الجدل والصراع"، مركـِّزاً على الكشف عن الحي وحده في الهيغلية والفلسفات الغربية المعاصرة وايضا عن تناقضاتها وحتى مهازلها من خلال نظرة نقدية مثقلة بالمعرفة العميقة والقسوة احيانا، فيما ترجمنا الى العربية في2005 أحد مؤلفاته اللامعة وعنوانه "هيغل والفلسفة الهيغلية"، بعد ان صدر بالفرنسية بست طبعات على الأقل سلفاً خلال فترة وجيزة كما ترجم الى معظم لغات الدنيا الاوروبية منها وكذلك غيرها كالصينية واليابانية والتركية.
والفلسفة في نظر جاك دونت روح كل ثقافة حية، لكنها مسؤولية جسيمة، لان ليس فقط عليها الجواب على اي سؤال يعترضها، انما عليها ان تجيب بشكل دقيق، فهذه فائدتها الوحيدة، اما عن مهمتها الرئيسة، فمنذ آلاف من السنين والاجابة معروفة: انها ببساطة "حب الحكمة". وهذا بحد ذاته معضلة، إذ كيف يمكن تحقيق توافق بين كل هذه الاجزاء المختلفة المتحركة في وجود ما من اجل خلق كل منسجم ونشيط وسعيد؟
لكن تلك المعضلة القديمة يمكننا الالتفاف عليها بالقول إن مهمة الفلسفة هي "فهم ما هو قائم"، أي ادراك بماذا يتقوّم التاريخ، وما يمثله فيه عملنا وما نسعى لإنجازه كمشروع انساني بالضرورة. بداهة، إن للفسلفة طموحات اخرى غير هذا الفهم، لكنه الأهم في التحصيل الأخير لأن الانسان لا يكف عن الشعور بأنه حيال عالم لا يفهمه دائما، بل يبدو معادياً في كثير من الأحيان.
فمفهومنا للفلسفة ينبغي ان يكون "تسامحياً"، اي مفتوحاً للكل، لكن "كل ما ولد ينبغي ان يموت"، هذا القول الذي ردده غوته وبعده هيغل، يردده دونت معتبرا انه "ذو مضمون ديالكتيك محرف.. لأن فيه الاستنتاج: "ان الاشياء لا تظل ابداً على ما هي عليه، فقانون العالم هو الصيرورة، وعليه فالمبدأ الاول ليس الوجود كما انه بالمقابل ليس العدم. المبدأ الاول هو العبور من الوجود الى العدم ومن العدم الى الوجود، أي انه إذاً الولادة من العدم الى الوجود والموت من الوجود الى العدم. ان عبارة غوته تعبـِّر عن هذا المعنى بشكل أكيد، إذ ان فكرة ان كل شيء سيموت هي لأن كل شيء قد وُلِد، لكن من كل موت ينبغي ان يولد شيء ما من جديد، انها فكرة مخيفة ربما إلا انها الحياة"، ولا مفر من ذلك: "الكل يدخل التراب ليبدأ اللعبة"،
لكنه دفاع من نوع خاص عن الفلسفة وعن التاريخ الحي بالتالي ما يمور به هذا التعريف "الحزين" لكن الذي يظل في الجوهر، ولهذا السبب ربما، اطراءً سامياً بهما معاً وباتحادهما القدري، لأن جاك دونت بقدر ما هو مفكر مسؤول هو رجل موقف وكلمة ومن هنا وفاءه المدهش وغير الدوغمائي وغير المبسط لهيغل ولماركس معا برغم كل انزعاجه في احيان كثيرة من بعض استنتاجاتهما الواثقة جدا، فقد ظل كل عطائه الفلسفي ينتصب بثقة هادئة ومن دون تهريج بوجه الفصل القاطع بين الفلسفة وتاريخها من جهة وبينهما معا والتاريخ الكوني الواقعي من جهة اخرى.
على العكس وجد دونت ان العلاقة بين الفلسفة والتاريخ هي علاقة ديالكتيكية عميقة، فكلاهما يفترض الآخر لوجوده، وكلاهما ينتصر بانتصاره، ومن هنا النزوع الى إعلاء فكرة الديالكتيك، لكن الهيغلية خاصة، إذ ان الديالكتيك الماركسي يبدو اقل خصباً وأصالة بنظرنا.