TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > توت فيردي ودفلى فاغنر

توت فيردي ودفلى فاغنر

نشر في: 17 مارس, 2013: 09:01 م

محبو الموسيقى الجدية يضعون دائماً الألماني فاغنر(1813ـ 1883) والإيطالي فيردي (1813 ـ 1901) وهما أبرز علمين من أعلام الأوبرا الرومانتيكية، على طرفي نقيض مثير للخلاف. في هذه السنة التي نحن فيها تمرّ الذكرى المئوية الثانية على ميلادهما، وليس يسيراً أن تغفل النشاطَ الذي يُلمّ بالحياة الموسيقية، نشراً وعروضاً، في كل مكان من العالم الغربي، ولكنه بدأ في إيطاليا بصورة مختلفة، وملفتة للنظر. دانيال بارِنبويْم، قائد أوركسترا "لاسكالا" في ميلان ـ وهي أعرق وأشهر دار أوبرا في العالم ـ يقرر أن يبدأ احتفال الإيطاليين بأوبرا مُنتخبة لـ "فاغنر"، الأمر الذي اعتبره أحد النقاد "صفعة للفن وللكرامة القومية الإيطاليين، خاصة في مرحلة الأزمات الاقتصادية." ألا يكفي تفوق ألمانيا الاقتصادي؟

ولكن الأمر، في حقيقته، يذهب أبعد من هذا المدى التفاخري، إلى التعارض بين الطبيعة العقلية الباردة الشمالية، والطبيعة العاطفية الحارة الجنوبية، فالألماني يفكر في موسيقاه، في حين يغني الإيطالي.

في كتابي "العودة إلى غاردينيا" (دار المدى1995)، وهو كتاب سيرة، تعرضت إلى توجهين في كياني الثقافي والروحي، توجه انبساطي يميل إلى الأفق المفتوح والمُضاء، والآخر انطوائي، داخلي يميل إلى رحيل الأعماق، وكل توجه يغطي نتاج مبدعين كُثر ممن نعرف في حقل الشعر، الرسم والموسيقى، الأول نسبته إلى تأثير علاقتي بشجرة التوت التي كانت تملأ بيتنا بالطيور والظلال، وشجرة الدفلى المعتمة المغلقة على ذاتها، التوت والدفلى أصبحا مصطلحين نقديين في كتاب السيرة، حتى أن د. حسن ناظم، الذي أعدَّ كتاباً حوارياً طويلاً معي، أصدره بعنوان "إضاءة التوت وعتمة الدفلى" (دار المدى 2013). أذكر في حينها أني وضعت فيردي، بين آخرين، في التوجه الأول، في حين نسبت فاغنر إلى التوجه الثاني.

فيردي في أوبراه يحب أن يغني، يُريح ويُطرب، وفاغنر في المقابل يحب في أوبراه أن يتأمل ويفكر، الأمر لم يمنع فيردي من أن يفكر أيضاً، ولكن تحت سطوة الغناء وكذلك لم يمتنع فاغنر عن الغناء إذا أراد، ولكن اختلاف المحورين جوهري حتى ليثير الأمر إشكالية "المهمة الموسيقية" بين محبي الموسيقى ونقادها. ففاغنر تأثر بالفيلسوف شوبنهاور، خاصة بعمليه "تريستان وإيزولدة" و "بارسيفال". وأثر بالفيلسوف نيتشه حـد الاستعباد (راجع مقالي "نيتشه والموسيقى"، مجلة "الكوفة" العدد1 2013)، في حين ظل فيردي تحت تأثير شعراء مثل شيكسبير، وموسيقيين مثل بيتهوفن، ولم يقرب الفلسفة ، بل دراما الانسان ذي العيوب: الأحدب في "ريغوليتّو"، والشيخ الواهم في "فالستاف"، والأميرة الغيورة في "عايدة"، والشكاك في "عطيل"، وإذا مدّ السينما فبألحان عذبة من "ترافياتا"، في حين يصلح فاغنر لفيلم مثل "القيامة الآن". هناك عتمة عند فاغنر، هي عتمة الرحيل الداخلي وعتمة مَن يجد أن الحب، والرغبة لا يكتملان إلا بالموت.

في كتاب "العودة إلى غاردينيا" وجدتني مأسوراً إلى الدفلى، ورحيل عتمة الداخل، ولكني لم أجدني نافراً من الانبساط باتجاه إضاءة الخارج أيضاً، هناك توليف بين التوجهين، ولكن لصالح محور واحد منهما بالتأكيد، أنا احب فاغنر بقدر ما أحتاج فيردي، أحد النقاد قال عبارة وجدتها دقيقة في هذا السياق، تقول " بأننا نحتاج فيردي ليلطّف من حدة فاغنر داخلنا." الإصغاء لفيردي وحده قد يسطح الوعي، إذا لم يُعزز هذا بوعي أحدنا لعناصر الدراما الروحية فيه، وهذا الوعي يكفله فاغنر، إذا ما كنا من مستمعيه.

لقد اعتدت، حين أصغي لفاغنر، أن أكون بكامل العدة الفكرية والروحية لدخول المأزق، ولعل تأثيره علي أعمق من تأثير فيردي، ولكني حين أصغي لفيردي لا أتوقف عن ملاحقة ألحانه بالمحاكاة المصوِّتة. الأول يفي بحق رحيلي الداخلي في ليل الروح، والآخر يفي بحق تطلعي باتجاه الشمس، والكائن ابنٌ غير سوي، ولكن بارّ للتطلعيْن.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

 علي حسين اعترف بأنني كنت مترداً بتقديم الكاتب والروائي زهير الجزائري في الندوة التي خصصها له معرض العراق الدولي للكتاب ، وجدت صعوبة في تقديم كاتب تشعبت اهتماماته وهمومه ، تَّنقل من الصحافة...
علي حسين

قناديل: في انتظار كلمة أو إثنتيّن.. لا أكثر

 لطفية الدليمي ليلة الجمعة وليلة السبت على الأحد من الأسبوع الماضي عانيتُ واحدة من أسوأ ليالي حياتي. عانيت من سعالٍ جافٍ يأبى ان يتوقف لاصابتي بفايروس متحور . كنتُ مكتئبة وأشعرُ أنّ روحي...
لطفية الدليمي

قناطر: بعين العقل لا بأصبع الزناد

طالب عبد العزيز منذ عقدين ونصف والعراق لا يمتلك مقومات الدولة بمعناها الحقيقي، هو رموز دينية؛ بعضها مسلح، وتشكيلات حزبية بلا ايدولوجيات، ومقاولات سياسية، وحُزم قبلية، وجماعات عسكرية تنتصر للظالم، وشركات استحواذ تتسلط ......
طالب عبد العزيز

سوريا المتعددة: تجارب الأقليات من روج آفا إلى الجولاني

سعد سلوم في المقال السابق، رسمت صورة «مثلث المشرق» مسلطا الضوء على هشاشة الدولة السورية وضرورة إدارة التنوع، ويبدو أن ملف الأقليات في سوريا يظل الأكثر حساسية وتعقيدا. فبينما يمثل لبنان نموذجا مؤسسيا للطائفية...
سعد سلّوم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram