في المؤسسات الكبيرة، - والدولة مؤسسة كبرى – لا يمكن لرئيس المؤسسة ولا لمجلس إدارتها، الموافقة أو إجازة أي مشروع مقترح ما لم يرفق بأولويات وحيثيات ونتائج ورؤى ما يسمى بدراسة الجدوى.
دراسة الجدوى، تبين، بأرقام مشفوعة بحقائق – من دون تمويه أو تهويل أو تهوين – مدى إمكانية نجاح المشروع من عدمه. تبيان مكاسبه أو خسائره، مستندة على استبيانات مسبقة، أو استنتاج منطقي عقلاني، أو استطلاع تسويقي بياني: ما هو الكسب المادي الآني من المشروع؟ما هي المكاسب اللاحقة؟ ما هي المكتسبات المعنوية القصيرة أو الطويلة الأجل... إلخ.
مناسبة هذي المقدمة، ما نضحت به وسائل الإعلام من التهيؤ لاستقبال وفود وضيوف خمس عشرة دولة للاحتفاء ببغداد عاصمة للثقافة العربية.!..
أغامر بالقول: ما من عراقي أصيل-- يجري في عروقه نسغ عشق العراق والخوف عليه --، لا تسعده ولا تبهجه قرارات اختيار بغداد عاصمة للثقافة العربية لعام 2013
ولكن أي عاصمة للثقافة، والثقافة الرصينة والعلوم الحديثة مغيبة وغائبة في عراق اليوم، محجوبة إرادة بنيه بألف برقع وبرقع، غارقة ثقافته تحت وابل من الغيبيات والمعميات والأضاليل.
أي عاصمة للثقافة؟ والمدارس والجامعات ودور العلم والفقه (حواضن المعرفة والوعي والإبداع) متصدعة الأبنية، هامشية التفكير، عليلة الخدمات مشوهة المناهج.
أي ثقافة في بلد تعاني مستشفياته من نقص في المعدات الحديثة والكادر الاختصاصي العالي التأهيل؟ أي ثقافة في بلد وعاصمة بلد تكاد تخلو شوارعه من وسائل للنقل العام، عاصمة تستوطن شوارعها الحفر والمطبات والحواجز؟ أرصفتها مهدمة مزروعة ببسطيات وباعة العشوائيات؟ أي ثقافة في عاصمة مجاري مياهها الثقيلة طافحة طوال فصول السنة، وتلال القمامة فيها ملاذا لأطفال الفقراء يرتجون في ثنياتها المتفسخة بعضا من الرزق؟ أي ثقافة في عاصمة تطفو على ثروات هائلة يتقطع فيها الكهرباء بعدد ساعات اليوم، ويساوم على إعادته نفر من القطط السمان أصحاب المولدات الأهلية؟
أي ثقافة في عاصمة، الماء في صنابيرها مج وعسر وشحيح؟
فلماذا ومن أجل من تستضيف بغداد وفود وزوار؟ لتطلعهم على ماذا؟ وماذا ستتضمن رقاع الدعوة؟: أهلا بكم في بلد الفساد والمفخخات والتفجيرات والذعر من المجهول؟ وأين سيقضي الضيوف أيام تواجدهم في العاصمة؟ لزيارة برلمان شبه خال من الأعضاء؟ لتفقد مصانع ومعامل مغلقة بالضبة والمفتاح؟ لارتياد المزارع الموحشة التي شح فيها الماء وماتت المزروعات؟ لرؤية المدارس المتصدعة يفترش طلابها الحصران و الرحلات المتآكلة؟ أو.. ستنقضي أيام الاحتفال بين دعوة للغذاء في منتجع هذا المسؤول أو وليمة للعشاء في قصر ذاك؟ وقضاء سويعات السهرة في حضرة مطربة من الدرجة الثالثة تعربد وتتلوى وتشكو ظلم الحبيب؟ أما من حكيم طالب بدراسة جدوى قبل الارتهان للمناسبة؟
والله، والله، من ظلت في جبينه قطرة حياء ورمق من كبرياء، سيتوارى خجلا أمام ضيوف دعوناهم ليتفرجوا على خيبات (عصية الدمع) بغداد كعاصمة للثقافة العربية في القرن الواحد والعشرين.