العراقيون الذين عرفوا الغربة قبل صدام هم غير العراقيين الذين عرفوها معه وبعده. الأولون كانوا مسكونين بأشواق الوطن. وهي نفسها أشواق الحياة. والحياة الطبيعية لدى كل انسان توجد فقط في وطنه. ان الوطن مسألة احساس كلي ومسألة طبيعة كاملة معا. الحيوان أو النبات إبن كلي لبيئته. كذلك هو الانسان. لكن الانسان يضيف الاحساس الى الطبيعة، يضيف وعي الانتماء الى الانتماء. فهو ليس موجودا وجودا طبيعيا فقط في وطنه وانما موجود فيه وجودا واعيا، ممتلئا به في الحواس، وغاصا به في العقل. نوع فريد من كلية بشرية وطبيعية.
هذه الكلية يمكن أن نصطلح عليها "أشواق الوطن". وهي أشياء تعيش بهدوء داخل الفرد حتى وهو في بلده. ولكنها في الغربة تفقد هدوءها وتتحول الى أمواج صاخبة أو غامضة أو مختلفة. إن الوطن هو معنى المواطن، معنى الفرد. وحين يبتعد المعنى عن صاحبه يعيد اكتشافه، لكن اكتشاف خسارة لا تعوض، واكتشاف أشواق لا تهدأ مهما بدت ساكنة ودفينة وعميقة. وهي تصير كذلك خاصة اذا تحولت الغربة الى منفى، أي اذا انقطع رجاء العودة ولو عودة زيارة الى الوطن.
والمنفى هو نوع من يأس المعنى، كما عبر فوزي كريم يوما في واحدة من أعمق القصائد. المنفى هو نتيجة تحول الوطن الى معان سود، وهو أيضا استحالة العثور على معنى بديل:
"كل شراع لم يعد اليك
يا مخافر الحدود
لا باحثا، سدى، عن المعنى
ولكن هربا من المعاني السود
فهو شراعي"
وفوزي من جيل عاش العهدين. عهد المعنى الشامل والعهد المقصور على المعاني السود. وهو جيل حكم بـ "أشواق الوطن" لأنه اختبر زمنا صحيا من تاريخ الوطن. أما الجيل التالي فقد عاش زمن المعاني السود وحده. وهو زمن حوَّل أشواق الوطن الى أشواق الغربة. وهذا أسوأ تحويل صنعه صدام. تحويل شنيع. جيل هذا الزمن سيجد "المعنى"، وهما أو حقيقة، في الغربة، لأنه لم يعرف الحياة الا من خلال أشواق النجاة، ومن خلال تحقق الأشواق الى النجاة في الغربة.
ولم تقصِّر السنوات العشر الماضية من عمر التغيير في هذه السيرة. فقد حولت البلاد الى مصنع هائل لإنتاج "أشواق الغربة". الجميع يتلهف الى الغربة بعد أن فقد الشعور بالأمان على نفسه وعلى مستقبله في الوطن. الجميع يُهرس في مطحنة المعاني السود. والمطحنة شغالة بهمة طالما توفر لها ذلك الوقود القاتل المدمر المتمثل باختلال العدالة، اختلال سلطة القانون. ومن دون القانون ليس هناك وطن والوطن ليس سوى معان سود.
بعض دول الربيع العربي دخل مطحنة اختلال سلطة القانون. ومنها مصر التي انشق فيها القانون الى اخواني ومدني. هذا الانشقاق دليل على ان مصر لازالت تقاوم، وان المعاني السود لم تنفرد بحكمها بعد، ولكن حصادها المر بدأ. أمس شاهدت مقابلة تلفزيونية مع أحد ضحايا هذا الاختلال. انه الملياردير المتنور نجيب ساويرس. رفع القضاء الاخواني عليه 40 بلاغا الى المحاكم، فصار بحاجة الى عمرين كي ينتهي من هذه البلاغات أو تنهيه بالسجن. لجأ الى الغربة. وحين سئل عن وضعه ووضع أسرته هناك وألحوا عليه في السؤال بكى. وعلى كل هذه التعاسة حسدته لأن لدينا في العراق جيلا بأكمله سيموت دون أن يعرف كيف يمكن للمرء أن يذرف دمعة شوقا الى الوطن.
دمعة ساويرس
[post-views]
نشر في: 17 مارس, 2013: 09:01 م
جميع التعليقات 1
smh
شكرا