في حصار بيروت عام 1982 قام شاعرٌ بجرد ما يحتاج إليه من حاجاته وما سيرميه منها، قبل ترك لبنان متوجِّهاً إلى دمشق. ومن بين ما رمى في شقتي الصغيرة كرّاس كبير بخط يده، دفعني الفصول لتصفّحه. وجدتُ، من بين أشياء أخرى، جُملاً أقرب للصورة الشعرية، كان يقوم باستلالها من روايات عالمية مترجَمة، ثم يكيُّفها للوزن العربي وإدراجها في قصائده، ناسباً إياها بالطبع لنفسه. ستتغيّر إلى حد بعيد أصولها مع استخدام ألفاظ جديدة وفي إطارٍ نغميّ لم تُكتب به بالأصل. كان يقوم بالعملية بنجاح منقطع النظير لا يفوح بأدنى الشبهات.
اليوم، مع سيادة قصيدة النثر، سيكون سهلاً عليه، وعلينا جميعاً، اقتناص جمل شعرية خالصة لدى كبار الروائيين العالميين، وترتيبها في نسق الأبيات المتوالية المعروف لكي (نصنع قصيدة رائعة) كما قد يقول تريستان تزارا. وهذا ما سأقدّم له المثال انطلاقاً من رواية هاينريش بول (ترجمة ياسين طه حافظ، دار المدى2012) "ولم يقل كلمة"، وأنا أقتطع جملة من هنا وأخرى من هناك:
"قلت لزجاج النافذة: شكراً
في ابتسامة بهيجة تصطاد بشوكة خشبية
سجقة في بحيرة الزيت
أمامي
دورق كبير أخضر ممتلئ خيارا غاطساً في الخلّ
أمامي
أّذُن القسّ البيضاء أثناء الاعتراف
صحن الصابون من الصينيّ الرخيص
عليه إعلان عن مصنع إسفنج
كانت تصلنا من الحقول رائحة جزّ الكراث
لم نعد نرى ضربات الفرشاة الجريئة للمداخن نافثات السواد
تلك الابتسامة مصنوعة من الجصّ
النساء المريضات لا ينبغي أخذهن إلى الفنادق".
انتهى نصي المصنوع عبر عملية اختيار محض من ناثر كبير. لكن إذا قيل لي أن هذا النص لا يستجيب لفكرة الكتلة السردية أو (الكتلوية) التي يجعلها البعض اليوم شرطاً لقصيدة النثر، فأني محظوظ بان أجد في رواية هاينريش بول المذكورة كتلة سردية نثرية لعلها تستجب بالتمام للمطلوب. هنا إذن قصيدتي الثانية التي سأسميها "قبعة":
"كلّ الناس على الأرصفة تقريباً ركعوا إلا واحدا طويل القامة يرتدي جاكيتا من المخمل المضلّع وبيريّة، ظل واقفاً لم يحرّك بيريّته أو يُخرج يديه من جيبيه. أفرحني أنه لم يدخّن. جاء أخيراً رجل أبيض الشعر، همس له بشيء، وبهزة كتف رفع بيريته وحملها بيده، لكنه لم يركع". انتهى نقلي الحرفيّ.
هل نحن أمام الطرفة أمام أمر ذي غرض جاد؟. نود الخلوص إلى أمرين: الأول هو أن كل ناثر كبير، خاصة من بين الروائيين، ينطوي على طاقة شعرية صافية خالصة، متوزَّعة في ثنايا عمله، ليس فقط على مستوى الأسلوب الشعري، الممسوس بفضاء "مُشَعْرَن" بالتمام وإنْ بدا في غاية الواقعية، وإنما أيضاً على مستوى الصورة الشعرية الموضوعة في مكانها المناسب، وعلى مستوى الخيال الذي تشعّ به. كل ذلك في نطاق هاجس مفهوميّ وبنائيّ متماسك.
الثاني: هو أن قبولنا وحماستنا لقصيدة النثر بصفتها أحد سمات الحداثة في الشعر المعاصر، ليس حماساً أعمى ومن دون أي أدنى "الشروط"، مثلها في ذلك مثل أي ممارسة إبداعية أخرى. هذان المثالان يودّان القول إن الكثير من قصائد النثر الحالية لا تعدو أن تكون عملية مونتاج لعناصر ما من رابط داخلي بينها، ليس بهدف إظهار فكرة فلسفية أو وجودية، مثل فكرة اللاتماسك الذي يَسِمُ عناصر الكينونة، وإنما لأنها تخرج منذ البدء مفتّتة، مهووسة بالكلام من أجل لعبة الكلام.
إذا كان الشعر ينبذ بطبعه الشروط والقوانين، فإنه أيضاً يُعلن بُنىً داخلية متماسكة وفق طريقته ومسالكه، ليس على مثال السموفونيات، شبه الرياضية في الموسيقى الأوربية، لكن على طريقة موسيقى الجاز مثلاً ذات التنويعات والالتواءات والارتجالات الآنية التي يقوم بها العازفون، دائما ضمن بنية لا يمكن سوى التعرّف عليها، مهما كان مقدار تبعثّر وتناثُر عناصرها.