تشير جلّ الدراسات الأثرية – ومن المحتمل كلها - إلى أن الإنسان أنشأ مدنه الأولى بمحاذاة الأنهار الممتدة في سهول المناطق الدافئة متجنبا ً بذلك صعوبة الظروف المناخية التي طبعت المناطق الأخرى ومستفيدا ً من الإمكانات الكبيرة التي توفرها هذه ال
تشير جلّ الدراسات الأثرية – ومن المحتمل كلها - إلى أن الإنسان أنشأ مدنه الأولى بمحاذاة الأنهار الممتدة في سهول المناطق الدافئة متجنبا ً بذلك صعوبة الظروف المناخية التي طبعت المناطق الأخرى ومستفيدا ً من الإمكانات الكبيرة التي توفرها هذه الأنهار للمدن الناشئة عليها، على أن طبيعة هذه الأنهار لم ولن تخلو من صعوبات أخرى قد تصل إلى حد الكوارث أحيانا ً كالفيضانات. رغم ذلك فقد رضي الإنسان أو فضّل أنشاء مدنه إلى جوارها محاولا ً إيجاد الوسائل اللازمة للسيطرة على صعوباتها.
وتشير التنقيبات الاركيولوجية إلى أن الأنهار الخمسة الأولى؛ الفرات ودجلة والنيل والسند والنهر الأصفر كانت هي العناصر الطبيعية الأساس لأولى مدن التأريخ الأقدم، والجدير بالملاحظة هنا أن أثنين من هذه الأنهار الخمسة – الفرات ودجلة –يشقان في نهاياتهما سهلا ً واحدا ً لبلد واحد ليعانق أحدهما الآخر في ختام مسيرتهما، وأن هذين النهرين هما الموطن الأول لأولى مدن التأريخ باتفاق معظم المؤرخين والباحثين، وتعد مدينة الوركاء (أوروك) أولى مدنيات البشرية قاطبة ومنها تعلمت مدن حوض النيل وشرق آسيا النظم المدنية. فهل في هذه الإشارات مبعث فخر لساكني هذه الأرض؟ وهل حفظ الأبناء ما أستودعهم الآباء من أمانة؟
أن من أكثر الأمور بداهة أن الطبيعة قد سبقت المدن الوجود، وأن المدن قد اتخذت من الطبيعة قاعدة وأساسا ً لنشوئها. ليس من العسير أدراك وتقبل هذه المفاهيم البسيطة والتلقائية، غير أن الأمر الذي يحتاج الى تفكر ودراسة ومراجعة لفهم ما حصل على مر تأريخ المدينة هو كيف تعاملت المدينة مع الطبيعة؟ وإذا كانت الطبيعة هي الحاضنة للمدينة فهل أدركت المدينة هذا الاحتضان وتعاملت معه بوعي؟ ولماذا انتفضت المدينة على أحضان الطبيعة التي احتوتها ووفرت لها إمكانات شتى لتهيمن عليها وتصنع في كثير منها ما يشبه مصانع وورش هائلة تخدم ماكنتها وتمكنن إنسانها والطبيعة الحاضنة لها، أو تكتسحها أحيانا ً بشكل قاس ٍ وناكر للجميل؟ وهل استطاعت المدينة أن تعوض إنسانها ما خسرته من الطبيعة؟
لقد نشأت المدن ولقرون عديدة بشكل موافق للطبيعة المجاورة لها وبكثير من التجانس ( Harmony ) ثم تطبعت بطابع الماكنة ( Mechanism ) والهرع وراء الربح السريع وهوس الامبريالية ( Imperialism ) وخصوصا ً مع استشراء الثورة الصناعية ( Industrial Revolution ) في نهايات القرن الثامن عشر والتي دفعت بأنانية وجشع القطاع الرأسمالي الى مدياته القصوى دون مراعاة للطبيعة والإنسان. هذا الاندفاع غير المسيطر عليه والمتهور أحيانا ً حدث ويحدث أحيانا ً في أزمان ومواقع مختلفة وبمقاسات مختلفة، وأن كان قد حدث في عموم أوربا آنذاك وبالذات في بريطانيا، فقد حدث لاحقا ً في أميركا فأنشأ مدنا ً أرهقت ساكنيها مما دعا الصحفية الأميركية الكندية المعروفة Jane Jacobs إلى نشر كتابها الشهير " موت وحياة كبرى المدن الأميركية "
(The Dead and Life of Great American Cities by Jane Jacobs, 1961 ) وقد كان كجرس إنذار متأخر للاتجاه المخيف الذي أتخذه بناء تخطيط المدن من قبل. كما حدث هذا الاندفاع في مدن الخليج بعد تكدس عائدات الثروة النفطية فأنشأ مدنا ً مثل دبي والتي وأن بدت في حلة رائعة فأنها تخفي عوالم من الضغط النفسي والاستغلال الجائر للطبقات الكادحة والقادمة من بقاع شتى، كما يحدث الآن في مدن كثيرة من مدن الصين مثل شنغهاي والتي يتحول دخان تلوثها الى مايشبه الضباب الذي يخفي معالمها العليا، كما وأنه يحدث الآن وبشكل مخيف في أكثر مدن العراق ومراكزها يرافقه قلة وعي في كثير من الأحيان وسوء نية ولامبالاة في بعضها.
أن شكل تعامل المدينة مع الطبيعة الحاضنة والمحيطة بها يعطي إشارة واضحة لمدى جودة التخطيط الحضري الذي يبرمج نمو المدينة وتوسعها أولا ً، والى سلامة وصحة الجو العام للمدينة ووجود التوازن بين هيكليها الحضري والأخضر ( Urban & Green Structures ) ثانيا ً، والى وعي وثقافة المجتمع المدني ومدى معرفته بأهمية الطبيعة ثالثا ً، بغض النظر عن شكل الطبيعة ونوع البيئة ( Environment type ) فلكل بيئة طبيعية حسناتها ومنافعها وكذلك جماليتها فحتى الصحراء القاحلة لها جماليتها أذا ماعرف الإنسان التعامل معها.
لقد أدرك الإنسان بعد هذه القرون خطأ تعامله مع الطبيعة وأدرك الكثير من الكوارث التي تسبب فيها لاستغلاله السيئ للطبيعة أو بسبب إهماله لها أو العمل ضد قوانينها، وهنالك الآن وعلى صعيد عالمي عودة جامحة إلى أحضان الطبيعة لاستدراك ما يمكن استدراكه.
من اليسير ملاحظة أن الغالبية العظمى من مدن العراق تقع على ضفاف الرافدين أو فروعهما، وبذا يشكل النهر عنصر الطبيعة الأول في هيكل المدينة في العراق إضافة الى العديد من بيئات طبيعية أخرى مختلفة تسهم في تشكيل هذا الهيكل كالبيئة الجبلية والغابات في الشمال والاهوار في الجنوب والصحراء المحاذية لمدن غرب العراق وبعض البحيرات مثل ساوة والحبانية والثرثار – مع بعدها عن مراكز المدن – وغيرها، وبحر النجف الذي ينفرد بخصوصيته، إضافة الى الأراضي الواسعة الممتدة بين المدن وكذلك الأراضي الزراعية والبساتين والتي تعتبر عنصرا ً وسطا ً فهي طبيعة تدخلت فيها يد الإنسان. أما ضمن الهياكل الحضرية للمدن فأن حضور الطبيعة يتمثل في المتنزهات والحدائق العامة ( Public City Parks ) أو المتنزهات الخاصة بالأحياء السكنية ( Local Parks ) أو الأشرطة الخضر ( Green paths ) الممتدة مع الشوارع الكبرى ( Boulevards & Avenues ) وأحيانا ً على شكل أراض زراعية متبقية ضمن بعض قطاعات المدينة أو على شكل مساحات متبقية زائدة ( Between Spaces ) هي في الأغلب مساحات عجز التخطيط الحضري عن منحها وظائف واضحة فاستحالت الى مساحات تسمى خضراء على أوراق مخططات البلديات وتتحول في الواقع الى فضاءات فارغة بلا وظائف وغالبا ً ما تتحول الى تجمعات للمزابل والنفايات.
هناك نوع آخر من الفضاءات المهيأة لاحتواء الطبيعة رغم صغرها تقع خارج صلاحية المخطط الحضري ويعود تنظيمها وتفعيلها بالكامل الى مالكها – الفرد العادي - والى ثقافة المجتمع ومدى إدراكه لدور الوحدة السكنية كلبنة أساسية في تكوين هيكل المدينة، وهي الفناءات المفتوحة وحدائق المنازل. والتي بمجموعها يمكن أن تشكل شبكة تعمل مع بعض على إعادة دور الطبيعة الى داخل الهيكل الحضري، هذا المبدأ الذي كانت تعمل على أساسه الفناءات الداخلية للمدينة التقليدية ( Traditional Cities).
لكن من النادر أن نجد في مدننا في العراق عناصر طبيعية أخرى قد احتوتها مدن عديدة لعصور بعيدة، كالقنوات المائية – كقناة الجيش في بغداد - ، أو البحيرات الطبيعية منها أو الصناعية – كالبحيرة المحيطة بنصب الشهيد -، أو الهضاب والتلال وغيرها.
بغض النظر عن جمالية العناصر الطبيعية فأنها تنجز وظائف عديدة منها:
ـ أنها تعمل كمرشحات ( Filters ) ومصدات ( Barriers ) بين الإنسان والتلوث ( Pollution ) فان الطبيعة وبالذات المساحات الخضر ( Green Spaces ) تسام في خلق التوازن بين عناصر البيئة لإكمال دوراتها الطبيعية ( Natural Cycles )، كما أنها تسهم في امتصاص التلوث والمركبّات الضارة بشكل شبه مجاني لايمكن لأفضل المرشحات الصناعية انجازه " يتمكن هكتار واحد ( 10000 متر مربع) من المساحات المشجرة بشكل متوسط من امتصاص حوالي (15) طن من المواد الضارة سنويا ً ومنعها من الانتشار في الجو.).
ـ تُستخدم هذه المساحات الطبيعية كمناطق ترفيهية ولممارسة فعاليات رياضية متنوعة كالمشي والعدو وركوب الدراجات وغيرها.
ـ تُستخدم هذه المساحات كمناطق حركة وعبور آمن بين أجزاء المدينة وخصوصا ً للأطفال وكبار السن بعيدا ً عن أخطار المرور والمركبات.
ـ تثبت دراسات سايكولوجية البيئة باستمرار فعالية هذه المساحات في خفض الأمراض النفسية وآثارها لساكني المدينة كالإجهاد ( Stress ) والعصاب ( Neurosis ) والقلق ( Anxiety ) والصداع ( Headache ) وارتفاع ضغط الدم ( Hypertension ) وآلام المعدة أو المغص ( Abdominal Pain ) وعسر الهضم ( Dyspepsia ) والأرق ( Insomnia ) وغيرها.
ـ هناك نظريات حديثة - مثل نظرية الأميركيان MacArthur & Wilson – تشير الى أن المساحات الخضر وبقايا الطبيعة في المدينة تقوم بدور فعّال ليس في خدمة الإنسان فقط وإنما في الحفاظ على الأجناس الحية الأخرى من النباتات والحيوانات والتي تتبع خطوطا ً ومسارات خاصة في حركتها وتكاثرها وتواجدها والذي يؤدي بدوره الى خلق بيئة متوازنة متكاملة أو مايسمى بالتنوع الحيوي ( Biodiversity ).
أذا جاز لنا وصف مدن ما بعد الثورة الصناعية بأنها أشبه بمصانع هائلة قد احتلت الماكنة فيها محل الإنسان، فأن مدننا الآن في العراق وبسبب تعاملنا الفضّ مع الطبيعة التي تتخلل فيها وتحيط بها تحولت الى ما يشبه الثكنات العسكرية التي ما يفتأ المرء أن يدخلها حتى يود مغادرتها. وأن القادم الى بغداد عبر مطارها الدولي لايعجزه النظر عن ادراك سرعة التصحر ( Desertification ) الذي قد أجتاح حدود بغداد الخضراء والذي قد يطال كل نقاطها الخضر بما في ذلك المنطقة الخضراء ذاتها.
*مهندس عمارة وتخطيط حضري