TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > اوراق : المقال المستعاد

اوراق : المقال المستعاد

نشر في: 27 أكتوبر, 2009: 07:03 م

محمود عبد الوهاب على الرغم من أن مقالها ( ضدّ التأويل ) صريح في دلالة عنونتهِ ، لكنّ الناقدة والروائية الأمريكية ( سوزان سونتاج ) عملت أيضاَ على تعضيد العنوان بعتَبَة نصّية لتأكيد انحيازها التام إلى رفض التأويل ، والإقلال من أهمية المضمون في الأعمال الأدبية .
 العتبة النصّية تقع في أعلى المتن ، تجمع بين مقولتين متضامنتين : المقولة الأولى لـ ( وليم دو كونينغ) في إحدى مقابلاته : "المضمون لمحة خاطفة عن شيء ما ، لقاء هو أشبه بالومضة متناهي الصغر للغاية " . والمقولة الثانية لـ (أوسكار وايلد) في إحدى رسائله: " وحدهم الأشخاص السطحيون لا يحكمون من خلال المظاهر ، إن سرّ الكون هو في ما ظهر لا في ما لا يظهر " . المقولتان صريحتان فـي معارضة التأويل وتحجيم شأن المضمون أمام الشكل . الاهتمام بالشكل في الأعمال الأدبية موقف نقدي ليس بجديد ، لكنّه عاود الظهور بشكل بارز ومؤثّر في الستينيات ، بعد جملة من التحوّلات الفكرية والثقافية والسياسية في الغرب وتأثيرها في ظهور النزعات الفنية مثل الدادائية الجديدة وفــن الملصقات والفن الشعبي ( بوب آرت ) والرواية الجديدة في فرنسا . نشرت (سونتاج) مقالها (ضدّ التأويل ) عام 1964 ، الذي تُعدّه نصاً أساسياً ووثيقة نافذة ورائدة في تلك السنوات ، وبعد مضيّ ثلاثين عاماً على صدور كتابها ( ضدّ التأويل ومقالات أخرى / ترجمة نهلة بيضون ) الذي ضمّ مقالها بالعنوان الذي يحمله الكتاب ، و عدداً من المقالات في النقد والرواية والمسرح والسينما ، أخذتْ سونتاج تسترجع الجوّ الثقافي الذي اكتنف منجزها ، وتصوّر اندفاعها المفعم بحماستها التبشيرية في كتابة تلك المقالات من دون مــزيد من الحذر: " كنتُ محبّةً مشاكسة للجمال وبالكاد واعظة غير منفتحة " مؤكّدة ، في الوقت نفسه ، أنها وبعد مرور تلك العقود على انسجام مع معظم المواقف التي اتخذتها باستثناء مقالين تأريخيين عن المسرح لم يروقا لها الآن ، وأنها تشعر بالغبطة " لأنّ مجموعة من الكتابات المشاكسة تعود لثلاثة عقود ما زالت تثير اهتمام أجيال جديدة من القرّاء " . إن من الموضوعية والشجاعة أن يعيد الكتّاب قراءة نصوصهم أو كتبهم بعد مرور سنوات من نشرها ، فالصواب لا يظلّ صواباً إلى الأبد ، إنه كالقراءة حدَثي وظرفي ومتغيّر ، وإن من السذاجة أن نفخر بثبات أفكارنا ما دامت الحقائق تتغير . ما أبتغيه من إعادة قراءة مقال سونتاج ( ضدّ التأويل ) ليس تعديلاً أو تجريحاً للنتائج التي أقرّتها الكاتبة ، إنّما هي محاولة للثناء على روح المقاومة والمعارضة والمغايرة في الكتابة ، والثناء أيضاً على الشجاعة في مراجعة سونتاج أفكارها ونصوصها. ما كانت تراه سونتاج : هو إن تأويل النصوص الأدبية تثبيط للفهم السليم في الأعمال الجديدة ، وانتقام الفكر من الفنّ . رأي سونتاج - على تطرّفه - يطمح إلى الفهم والإفهام ، وإنه ليس إلاّ نيات للبناء الأصح في ما كانت تراه في تلك السنوات ، ذلك ما يمكن أن يقال أيضاً عن إبداع كتابنا الستينيين في العراق عبر رؤاهم ومنجزهم من مغايرة وإضافة وتحديث في القصة والقصيدة ومناهج النقد ، إنهم متمردون ومغايرون وإضافيون . كان همّ الستينيين ، الانعتاق من أدلجة الأدب ، ومن هنا كانت كتاباتهم متمردة ومشاكسة وفرديّة إلى حدّ العبثية أحياناً ، لكنّ ذلك لا يعني تخلّيهم عن واقعهم ، فالواقع مفهوم إشكالي يتّسع حتى للمتخيّل والحلم . المنجز الأدبي جمالي أولاً ، لا يلتزم إلا بأدبيّـته بحسب ( ياكوبسن ) ، ومن خلال الجمالي يتولّد المفهومي والفكري والسياسي في أنساق المنجز الإبداعي . رواية (مئة عام من العزلة ) لماركيز مثلاً تدين الدكتاتورية لا بمحاكاة تفاصيلها لكن بالمخيال الشخصاني الذي يصوّر الواقع في نسق لا محاكاتي . رجوعاً إلى سونتاج ومقالها المثير (ضدّ التأويل ): ترى أن مضمون العمل الفني ما هو إلاّ وَهْم التأويل المدمّر لجماليته ، فالتأويل متاهة . تُحيل سونتاج فرضيتها إلى أن روايات (كافكا ) فُهمت بتأويل على ثلاثة صعد: الأول أن نصوصه مجاز رمزي اجتماعي يمثل احباطات البيروقراطية الحديثة ، والتأويل الثاني أن نصوصه مجاز ، في ضوء التحليل النفسي ، يرمز إلى خوف كافكا من والده ، والتأويل الثالث أن نصوصه مجاز رمزي ديني يسعى فيه البطل " ك " في رواية (القصر) إلى أن يظفر بالجنّة . أين حقيقة نصوص كافكا من بين كل تلك التأويلات ؟ . لا يخلو اجتهاد سونتاج في مقالها من لحظة يوتوبيّة ، فالتـأويل ليس نشاطاً طليقاً و إسقاطياً من ذات القارئ ، بل إن له حدوداً تفرضها قرائن النص وموجّهاته لبلوغ دلالاته . مقال ( ضد التأويل ) لسونتاج اندفاع حرّ وجريء في قراءة النصوص عبر حقبتها الماضية ، ومراجعتها لمقالاتها في الفصل الأخير من كتابها، إضاءة تأريخية ومعرفيّة لكل ما هـو ضروري من تحوّلات في مجال الإبداع والثقافة لثلاثة عقود ماضية . كم يحتاج الكاتب إذن ، من مقاومة لذاته من أجل مراجعة نصوصه تعديلاً وتصويباً ليتبوأ موقعه مواطناً ثقافياً في عصره .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

بغداد/ المدى تنطلق فعاليات الدورة الخامسة من معرض العراق الدولي للكتاب، في الفترة (4 – 14 كانون الأول 2024)، على أرض معرض بغداد الدولي.المعرض السنوي الذي تنظمه مؤسسة (المدى) للإعلام والثقافة والفنون، تشارك فيه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram