محمود عبد الوهاب على الرغم من أن مقالها ( ضدّ التأويل ) صريح في دلالة عنونتهِ ، لكنّ الناقدة والروائية الأمريكية ( سوزان سونتاج ) عملت أيضاَ على تعضيد العنوان بعتَبَة نصّية لتأكيد انحيازها التام إلى رفض التأويل ، والإقلال من أهمية المضمون في الأعمال الأدبية .
العتبة النصّية تقع في أعلى المتن ، تجمع بين مقولتين متضامنتين : المقولة الأولى لـ ( وليم دو كونينغ) في إحدى مقابلاته : "المضمون لمحة خاطفة عن شيء ما ، لقاء هو أشبه بالومضة متناهي الصغر للغاية " . والمقولة الثانية لـ (أوسكار وايلد) في إحدى رسائله: " وحدهم الأشخاص السطحيون لا يحكمون من خلال المظاهر ، إن سرّ الكون هو في ما ظهر لا في ما لا يظهر " . المقولتان صريحتان فـي معارضة التأويل وتحجيم شأن المضمون أمام الشكل . الاهتمام بالشكل في الأعمال الأدبية موقف نقدي ليس بجديد ، لكنّه عاود الظهور بشكل بارز ومؤثّر في الستينيات ، بعد جملة من التحوّلات الفكرية والثقافية والسياسية في الغرب وتأثيرها في ظهور النزعات الفنية مثل الدادائية الجديدة وفــن الملصقات والفن الشعبي ( بوب آرت ) والرواية الجديدة في فرنسا . نشرت (سونتاج) مقالها (ضدّ التأويل ) عام 1964 ، الذي تُعدّه نصاً أساسياً ووثيقة نافذة ورائدة في تلك السنوات ، وبعد مضيّ ثلاثين عاماً على صدور كتابها ( ضدّ التأويل ومقالات أخرى / ترجمة نهلة بيضون ) الذي ضمّ مقالها بالعنوان الذي يحمله الكتاب ، و عدداً من المقالات في النقد والرواية والمسرح والسينما ، أخذتْ سونتاج تسترجع الجوّ الثقافي الذي اكتنف منجزها ، وتصوّر اندفاعها المفعم بحماستها التبشيرية في كتابة تلك المقالات من دون مــزيد من الحذر: " كنتُ محبّةً مشاكسة للجمال وبالكاد واعظة غير منفتحة " مؤكّدة ، في الوقت نفسه ، أنها وبعد مرور تلك العقود على انسجام مع معظم المواقف التي اتخذتها باستثناء مقالين تأريخيين عن المسرح لم يروقا لها الآن ، وأنها تشعر بالغبطة " لأنّ مجموعة من الكتابات المشاكسة تعود لثلاثة عقود ما زالت تثير اهتمام أجيال جديدة من القرّاء " . إن من الموضوعية والشجاعة أن يعيد الكتّاب قراءة نصوصهم أو كتبهم بعد مرور سنوات من نشرها ، فالصواب لا يظلّ صواباً إلى الأبد ، إنه كالقراءة حدَثي وظرفي ومتغيّر ، وإن من السذاجة أن نفخر بثبات أفكارنا ما دامت الحقائق تتغير . ما أبتغيه من إعادة قراءة مقال سونتاج ( ضدّ التأويل ) ليس تعديلاً أو تجريحاً للنتائج التي أقرّتها الكاتبة ، إنّما هي محاولة للثناء على روح المقاومة والمعارضة والمغايرة في الكتابة ، والثناء أيضاً على الشجاعة في مراجعة سونتاج أفكارها ونصوصها. ما كانت تراه سونتاج : هو إن تأويل النصوص الأدبية تثبيط للفهم السليم في الأعمال الجديدة ، وانتقام الفكر من الفنّ . رأي سونتاج - على تطرّفه - يطمح إلى الفهم والإفهام ، وإنه ليس إلاّ نيات للبناء الأصح في ما كانت تراه في تلك السنوات ، ذلك ما يمكن أن يقال أيضاً عن إبداع كتابنا الستينيين في العراق عبر رؤاهم ومنجزهم من مغايرة وإضافة وتحديث في القصة والقصيدة ومناهج النقد ، إنهم متمردون ومغايرون وإضافيون . كان همّ الستينيين ، الانعتاق من أدلجة الأدب ، ومن هنا كانت كتاباتهم متمردة ومشاكسة وفرديّة إلى حدّ العبثية أحياناً ، لكنّ ذلك لا يعني تخلّيهم عن واقعهم ، فالواقع مفهوم إشكالي يتّسع حتى للمتخيّل والحلم . المنجز الأدبي جمالي أولاً ، لا يلتزم إلا بأدبيّـته بحسب ( ياكوبسن ) ، ومن خلال الجمالي يتولّد المفهومي والفكري والسياسي في أنساق المنجز الإبداعي . رواية (مئة عام من العزلة ) لماركيز مثلاً تدين الدكتاتورية لا بمحاكاة تفاصيلها لكن بالمخيال الشخصاني الذي يصوّر الواقع في نسق لا محاكاتي . رجوعاً إلى سونتاج ومقالها المثير (ضدّ التأويل ): ترى أن مضمون العمل الفني ما هو إلاّ وَهْم التأويل المدمّر لجماليته ، فالتأويل متاهة . تُحيل سونتاج فرضيتها إلى أن روايات (كافكا ) فُهمت بتأويل على ثلاثة صعد: الأول أن نصوصه مجاز رمزي اجتماعي يمثل احباطات البيروقراطية الحديثة ، والتأويل الثاني أن نصوصه مجاز ، في ضوء التحليل النفسي ، يرمز إلى خوف كافكا من والده ، والتأويل الثالث أن نصوصه مجاز رمزي ديني يسعى فيه البطل " ك " في رواية (القصر) إلى أن يظفر بالجنّة . أين حقيقة نصوص كافكا من بين كل تلك التأويلات ؟ . لا يخلو اجتهاد سونتاج في مقالها من لحظة يوتوبيّة ، فالتـأويل ليس نشاطاً طليقاً و إسقاطياً من ذات القارئ ، بل إن له حدوداً تفرضها قرائن النص وموجّهاته لبلوغ دلالاته . مقال ( ضد التأويل ) لسونتاج اندفاع حرّ وجريء في قراءة النصوص عبر حقبتها الماضية ، ومراجعتها لمقالاتها في الفصل الأخير من كتابها، إضاءة تأريخية ومعرفيّة لكل ما هـو ضروري من تحوّلات في مجال الإبداع والثقافة لثلاثة عقود ماضية . كم يحتاج الكاتب إذن ، من مقاومة لذاته من أجل مراجعة نصوصه تعديلاً وتصويباً ليتبوأ موقعه مواطناً ثقافياً في عصره .
اوراق : المقال المستعاد
نشر في: 27 أكتوبر, 2009: 07:03 م