لا أسهل من تعميم صناعة ملايين الجهلة في غضون أشهر، ولكن ما أشق صياغة نفر من العلماء في سنوات.
كم يلزم من السنوات عددا -بفتح العين- وعددا (بضم العين)، ليستوي الطفل الغرير بشرا سويا، مؤهلا، مكتشفا، مخترعا، منتجا لمحاصيل الفكر والمعرفة؟ يقود لا يقاد، ينجز لا يتعلل، يعطي أضعاف ما يأخذ، تشع ثقافته ومعارفه إيجابا حيثما حل او ارتحل.
كم من السنوات؟؟ ها؟
لنحسبها حسبة مبتدئ، ولو على أصابع اليد! ثلاث سنوات روضة، ست سنوات ابتدائية، خمس او ست سنوات متوسطة وإعدادية، خمس سنوات أو سبع، جامعة. أربع سنوات تخصص عال، المجموع ما يقارب الربع قرن يقضيها المرء غاديا رائحا، قارئا، كاتبا، مستذكرا، ناسيا، حافظا،، ما بين أمل بنجاح وخشية من سقوط، بين ترقب لامتحان، وانتظارا لنتائج امتحان. و...و..كل تلك المسرات والأحزان لماذا؟؟ لتؤهله دراسته لأهلية الحياة، لعمل، لخدمة، لعطاء، للعيش ببحبوحة، للمشاركة بإنجاز... فإذا أضفنا لتلك السنوات أعواما أخر لإنضاج الشخصية وصقل التجربة، ستكون الحصيلة ثلاثين سنة _ أقل قليلا، أكثر قليلا، يسفحها المرء من سنوات عمره المحدود، على اكتساب المعرفة، تلك السنوات -بحلوها ومرها – تكفيها ثوان معدودات لإخماد أنفاس صاحبها برصاصة أو مفخخة غادرة، يا للبشاعة.
هذه المقدمة البديهية -الساذجة ربما- تجعل من التقارير الدولية المعتمدة عن أعداد العراقيين من ذوي الشهادات العالية والاختصاص النادر، الذين قضوا غيلة، او سقطوا صرعى، تجعلها سياط تعذيب، وتؤكد إن مجزرة استهداف ذوي الاختصاص هو الجزء الأهم من قرار تدمير العراق.
إن إيراد رقم يتجاوز الخمسة آلاف من ذوي الشهادات العلمية العالية، مقرونة بالأسماء ونوعية الاختصاص والعمل، يحتاج لوقفة متمعنة، ودراسة مستفيضة من ذوي الشأن، وعدم ترك الأمر يجري على عواهنه بالسلبية والإهمال، ولا ينبغي إسناده للصدفة او الحظ العاثر او القضاء والقدر،
علمونا إن حل المسائل العويصة تبدأ بفرض: المفروض كذا.. وتمر بتحليل وتوطية وطلب: المطلوب إثباته: كذا. ثم تختتم المسألة بالبحث عن البرهان.. وهنا يكمن جوهر المأزق. فالبرهان في خضم أتون المعركة مستحيل. لا أحد يعترف بالخطأ، لا أحد يرتضي اللوم، الكل يدفع عن نفسه تهمة الكيد والغش والتواطؤ.
ما أشبه ما يجري في عراق اليوم من تبديد الكفاءات العراقية وإغراقها بالغياب، ما أشبهها بعملية (الهولوكوست) نشيد الإنشاد في الإعلام اليهودي المعاصر، إشارة لما كابده اليهود في المحرقة النازية.
والهولوكوست تعني: المسلخ، المجزرة، الإبادة الجماعية، استعارها القاموس العراقي بقضها وقضيضها، لضمها لمفرداته وليعممها على النخب الخيرة من أبناء وادي الرافدين.