TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الأسودُ المهيبُ الصامت

الأسودُ المهيبُ الصامت

نشر في: 24 مارس, 2013: 09:01 م

عندما يفقد أحدنا عزيزاً عليه، يحضر الموت داخل وعيه بشكل غريب، يشاهد بأم عينيه، جلال الموت وهيبته، يمشيان جنباً إلى جنب مع عبثه وجنونه. نعم.. فالموت جليل، لكن يخالط جلاله كثير من العبث. والموت مهيب، لكن تشوه هيبته جنونيات لا يمكن القبول بها.
لقد رافقت والدي في رحلة مرضه الطويلة، مرافقة صديق لصديقه، ورفيق درب لرفيقه، وأحسست خلال هذه الرفقة بجميع آلامه، وكثيراً ما طالبتني روحه السماح لها بالرحيل، وقد وافقتها، بعض المرات، على حقيقة أن الرحيل قد آن أوانه. ربما لأن عمره الجسدي قد جاوز التسعين، وربما لأن حياته لم تعد تليق به، أقصد أنها لم تعد تستطيع تحمل تكاليف كبريائه الباهظة. وكان لكبريائه تكاليف لا تسمح ظروف المرض بسدادها.. وعندما تمدد على فراش الموت وأخذت حياته تشتبك مع موته بصراع مرير ومؤلم، مسحت على رأسه بيدي وأخبرته بأنني مستعد لتحمل ألم رحيله، وأن بإمكانه أن يُسَيّر قوافله طيب الخاطر.
حدث ذلك بعد أن أيقنت  بأنني لن أحزن لفراقه أبداً؛ لذلك فتحت الأبواب أمام رحيله بهدوء لم أجربه سابقاً، وبقي هذا الهدوء يلازمني لحظة توقف أنفاسه وسماعي لآخر صهيل من حصانه الجامح. ثم إلى اللحظة التي أدخلناه بها إلى التابوت وهممنا برفعه.
لكن ما الذي حدث لحظة جلوسي عند جهة الرأس من نعشه استعداداَ لحمله؟ هل تكسَّرت مراياي؟ هل انهارت هياكلي؟ هل ترنَّحت آخر منارة في أقصى زوايا إيماني عمقاً؟ هل تساقطت ثمار روحي يابسة وخالية من كل روح؟ لا أعرفُ في الحقيقة، لكنني لم أستطع النهوض من تلك الجلسة.. فهل بكيت؟! لا أعتقد أن البكاء هو الذي منعني من النهوض، بل ثورة مرعبة، جموع هائلة من الموتى احتشدوا داخل بكائي ونددوا بالموت بشكل مريع وهائج، شتموه حتى قبل أن يتمكن من لملمة حرابه، رموه بالحجارة، بصقوا بوجهه، وحتى أنهم حاولوا تمزيق أرديته السوداء. لكنه، وبخفة ثعلب، راوغ ثورتي ومسح دموعي، مبتسماً ابتسامةً ذكرتني بكل الوعود التي قطعها لي، بالكتابات الكثيرة التي كتبتها عن حكمته وهو ينقذنا من مآزقنا المؤلمة. عند ذلك الحد، لملمت صوابي وحملت نعش أبي وأنا أردد بيني وبين هزيمتي:
أيها الصمت، وكل هذيان يسبقك باطل...
أيها العدم، وكل الوجود من حولك عبث...
أيها الموت؛ تذكر دائماً، أن معركتنا مع الخيبة لا يحسمها إلا غدرك.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. حارث

    رحمه الله برحمته الواسعة و أسكنه فسيح جناته

  2. سمير العبدي

    أعزي الأعلامي المبدع برحيل والده الى جوار ربه ندعوا الله عز وجل ان يرحم برحمته الواسعة ويسكنه فسيح جناته ويلهم الأخ الأستاذ سعدون والأسرة الكريمة الصبر والسلوان . وأنا اقرأ كلمة الأستاذ سعدون وهو يعيش اللحظات وداع المرحوم والدة بفيض من المشاعر وبأسلوب زاخ

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

العمود الثامن: صنع في العراق

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: المستقبل لا يُبنى بالغرف المغلقة!!

 علي حسين منذ أن اعلنت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، والطاولات الشيعية والسنية تعقد وتنفض ليس باعتبارها اجتماعات لوضع تصور للسنوات الاربعة القادمة تغير في واقع المواطن العراقي، وإنما تقام بوصفها اجتماعات مغلقة لتقاسم...
علي حسين

إيران في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة

د. فالح الحمـــراني تمثل استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة، الصادرة في تشرين الثاني تحولاً جوهرياً عن السياسات السابقة لإدارتي ترامب وبايدن. فخلافاً للتركيز السابق على التنافس بين القوى العظمى، تتخذ الاستراتيجية الجديدة موقفاً أكثر...
د. فالح الحمراني

ماذا وراء الدعوة للشعوب الأوربية بالتأهب للحرب ؟!

د.كاظم المقدادي الحرب فعل عنفي بشري مُدان مهما كانت دوافعها، لأنها تجسد بالدرجة الأولى الخراب، والدمار،والقتل، والأعاقات البدنية، والترمل، والتيتم،والنزوح، وغيرها من الماَسي والفواجع. وتشمل الإدانة البادئ بالحرب والساعي لأدامة أمدها. وهذا ينطبق تماماً...
د. كاظم المقدادي

شرعية غائبة وتوازنات هشة.. قراءة نقدية في المشهد العراقي

محمد حسن الساعدي بعد إكتمال العملية الانتخابية الاخيرة والتي أجريت في الحادي عشر من الشهر الماضي والتي تكللت بمشاركة نوعية فاقت 56% واكتمال إعلان النتائج النهائية لها، بدأت مرحلة جديدة ويمكن القول انها حساسة...
محمد حسن الساعدي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram