أول مرة احضر ضيفا على شاشة بي بي سي مع المحاور رافد جبوري احد أذكى العراقيين العاملين مع المحطات الأجنبية، وأول مرة ايضا لا يشاركني الحوار ساسة او مثقفون، بل فتاة عراقية ستتخرج من الجامعة هذه السنة، ومهندس مغترب عاد الى العراق مؤخرا بعد ان مل الغربة.
السؤال الذي تطرحه الصحافة الأجنبية هذه الايام هو: هل نجح العراقيون ام فشلوا بعد عقد من الزمان؟ هل صدام حسين أفضل ام العهد الحالي.
الفتاة اجابت بدون تردد ان زمان صدام حسين كان أفضل. والحقيقة ان رجالا ونساء كثيرين يرددون في لحظة الملل والتعب كلاما كهذا، وخاصة حين تحزنهم صورة الحياة المليئة بالفوضى.
المناسبة جعلتني اسجل عدة ملاحظات على طريقة الغربيين في سؤالنا حول العراق.
منها اننا لا يمكن ان نأخذ صورة لبغداد المتألمة والتي يتقاتل فيها الجميع، ونقوم بتعميمها على العراق كله. فواحدة من نتائج انهيار نظام صدام هو ذلك الانتعاش الكبير في كردستان والذي علينا ان نتذكره كنموذج لما فعله العراقيون في زمن التعدد السياسي والانفتاح الاقتصادي.
وفي البصرة يعمل القطاع الخاص العراقي والمستثمرون الاجانب، في ورشة عمل كبيرة لا تقتصر على حقول النفط التي تزدهر بسرعة، بل يتصارع الامريكان واليابانيون على خطوط الشحن البحري وتحديث بنية الموانئ ونظم ادارتها، وينهمكون في بناء ابراج تجارية شاهقة وفنادق وحتى ملاعب غولف للمهندسين النفطيين، وسط استقرار نسبي يجعل السفير الامريكي السابق جيمس جيفري يقود سيارته بنفسه على كورنيش العشار.
ومثل هذه النجاحات النسبية لم تكن ممكنة لولا زوال صدام حسين وسياساته المتخبطة. نعم ولا تزال هناك سياسات متخبطة ولا شك، لكن لا احد يمتلك قدرة صدام السابقة على التخبط الاكمل. بل ان واحدة من ثمرات السنين العشرة كانت ان العراقيين بدأوا يتعلمون كيف ينبغي منع ظهور دكتاتور جديد وهو امر اراده سلطاننا الحالي وفشل بعد المقاومة الكبيرة التي ابداها محور اربيل نجف وقادة اخرين شجعان.
ان هناك كثيرا من الامور تجعلني ارفع رهاني على السنوات العشر المقبلة. ليس من الناحية السياسية فقط، بل حتى عبر علاقتنا بايران، والنفوذ الايراني موضوع سؤال دائم من قبل الاجانب ايضا. لم يعد في وسع ايران ان ترسل ضابطا من حرس الثورة ليمرر حاجاتها بسهولة، وصارت طهران تتعب وتلهث محاولة اقناع الناس بالبقاء لدعم المالكي، لكنها تفشل ويبقى مجلس الوزراء موحشا يملؤه المالكي بتسعة وزراء فقط. شيعة العراق لم يعودوا فقراء محاصرين ومصابين بالدوار كي تتلاعب بهم طهران التي اصبحت اليوم معزولة ومحاصرة وعاجزة عن بيع نفطها.
لكن الفتاة العراقية تريد أمنا وهي مصرة على ان زمان صدام حسين كان اكثر امنا. اما انا فأقول لها ان امن صدام كان بمثابة صمت القبر، والدكتاتورية كانت قبرا بامتياز. في القبر سكينة هائلة اذ لا صراع على ثروة ولا سلطة ولا تنافس. ولماذا يتصارع الناس وكل شيء محسوم للرأس الكبير، ولماذا يتعكر الامن ونحن موتى لا نحسن فعل شيء؟
لكنه كان أمنا موهوما، فصدام الذي وفر الامن، كان عند اي نزوة سلطة يسحب مواليد احلى الشباب ويزجهم في اكثر الحروب حماقة، ليعودوا في توابيت عسكرية، او لتبقى جثثهم ملقاة في الصحارى او الوديان، ولازلنا نتسلمها بطعم ألم مر عبر منفذ الشلامجة رغم مرور سنين على موت الدكتاتور.
ولذلك ولان أمن المستبد صناعة موهومة، فان دعاة الديمقراطية في العراق لن يسمحوا للمالكي ولا لغيره ان يخضعنا لاحكام عسكرية او يعطل البرلمان بحجة ان الامن اهم من الديمقراطية. اذ لا نأمن لحاكم في غياب الرقابة والحياة الدستورية، ولن نسمح لاي كان ان يأخذنا الى حرب مع الرمادي او طوزخورماتو (ولاحظوا كيف تتصاغر الاهداف مع اشباه الدكتاتوريات).
ان مصاعب العراق اليوم هي مصاعب الانتقال من قبر الدكتاتورية الى عراء الديمقراطية. مصاعب ان ننسى قواعد القبر ونتعلم قواعد الانفتاح وقواعد العمل تحت نور الشمس. ان ننسى لا ابالية القبر الصامت ونتعلم مسؤولية سطح الارض. وهذا عبور تاريخي مؤلم لا بد منه وفق كل قواعد التحول التاريخي التي نألفها، كشرط للالتحاق بالامم نصف المستقرة.
واتمنى ان وزير خارجية امريكا قد استطاع ان يستوعب موقعنا في مرحلة العبور، وانه قد بذل جهدا طيبا مع المالكي لافهامه ان الامة لن تعود الى قبر التسلط، وان رجال العصابات قد ينجحون في برهة من الزمن بتأجيل كيفي للانتخابات، او اهانة متواصلة للوزراء والبرلمان، ويسمحون للطائرات الايرانية ان تعبر لانقاذ الاسد في سماء العراق. لكن قواعد الانفتاح تتطلب رجالا من طراز آخر، يلائمون قواعد سطح الارض، لا صمت اللحود.
زمن صدام حسين ليس مثاليا. وزمان المالكي رغم خرابه، طريق للوصول الى عتبة الحداثة السياسية. ولولا المالكي واخطاءه لما تعلمنا، كيف نمنع ظهور دكتاتور اخر. لقد مرت اذن عشر سنوات بلا دكتاتور، ونجح المجتمع في كبح شهوة الاستبداد لدى السلطان. والنتائج تتضح تدريجيا، من اربيل حتى البصرة.
زمان صدام حسين
[post-views]
نشر في: 24 مارس, 2013: 09:01 م
جميع التعليقات 3
ضياء الجصاني
مقالك جميل ايها الطائي الشرس لولا انك قد تغافلت عن دالة اخرى على خروجنا من صمت القبور الى ضجيج التحول الى الديمقراطية، تلك هي شتائمك ولعناتك التي تمطر بها المالكي كل يوم او بين يوم وآخر وانت آمن على نفسك ومالك ومكافئاتك وهو ما يدل على صبر وتسامح ورجاحة عق
مواطن
احذر!! فالويل للمعارضين نصيحتي ان تقوم بتسجيل محضر عدم تعرض في اقرب مركز شرطه!!..
ابن العراق
هذا البلد يا أخ سرمد منبع للدكتاتوريات لان شعبه لا يعرفون الا التملق والتمجيد للحاكم والتصفيق له فلو رحل المالكي لصفقوا للقادم حتى لو كان الحجاج لذا فإن تثبيت ركائز التعددية والديمقراطية أمر غاية في الصعوبة في هذا البلد وخير مثال هو التعليقات اعلاه