اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > مسرح > في استذكار المسرحي البصري محمد جاسم عيسى

في استذكار المسرحي البصري محمد جاسم عيسى

نشر في: 25 مارس, 2013: 09:01 م

"أنا لا أتوقف للموت..الموت هو الذي توقف لي" الشاعرة/ إميلي ديكنسونأتجاوز مرارات ، عقد كامل مزقَ ، وأتلفَ حياة جيلي وحياتي، لأدلف حينها إلى منطقة "السِيّف" في "البصرة القديمة"، وأصل مقهى "هاتف" ، والزمان بعد منتصف الستينات..ثمة أصدقاء قُدامى، جرحى الأ

"أنا لا أتوقف للموت..الموت هو الذي توقف لي" الشاعرة/ إميلي ديكنسون

أتجاوز مرارات ، عقد كامل مزقَ ، وأتلفَ حياة جيلي وحياتي، لأدلف حينها إلى منطقة "السِيّف" في "البصرة القديمة"، وأصل مقهى "هاتف" ، والزمان بعد منتصف الستينات..ثمة أصدقاء قُدامى، جرحى الأرواح والأجساد، بسبب خصومات الأيديولوجيات المتزمتة المتناحرة ودموية معاركها. بين مَنْ كان في المقهى: المفصول من التعليم الناقد جميل الشبيبي، والشاعر عبد الكريم كاصد ، والكاتب الراحل خليل المياح ، والصحفي ، الراقد في صوفيا، جعفر موسى علي، والروائي إسماعيل فهد إسماعيل الذي غادر وعائلته إلى الكويت، وعندما طبع روايته الأولى" كانت السماء زرقاء" عن دار العودة في بيروت وقدم لها الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور، زارنا إسماعيل حاملا الرواية وأهداها لنا، وفي المقهى كتب على نسخة محمد ما يلي:" اعترف بان أول مَنْ قرأ هذه الرواية مخطوطة هو محمد جاسم عيسى وجميل الشبيبي وحاوراني حولها كثيراً وأعدت كتابتها في ضوء حواراتهما معي ، و محمد أحد أبطالها الأساسين وهو الذي عرفني على أصدقائي  أدباء ومثقفي المقهى". ووقع على نسخة محمد فتناولها الناقد جميل الشبيبي وكتب أسفل كتابة إسماعيل فهد إسماعيل ما يلي:"أشهد بهذا.." ووقع عليها،والشاعر مصطفى عبد الله ، والقاص والروائي علي جاسم شبيب، والشاعر محمد طالب محمد ،  والمثقف اللامع عبد المحسن براك والقاص،الفتى حينها، سلمان كاصد ، والشاعر شاكر العاشور، والقاص والروائي عبد الجليل المياح، واسعد احمد الباقر المتخصص باللغة الألمانية ، والمعلم الأنيق جداً جعفر موسى عزيز (أبو هشام) ، ومحمد جاسم عيسى الطالب في كلية الحقوق، كل أولئك الأصدقاء كانوا من اليسار العراقي ، المهضوم ومثخن الجراح حينها. محمد لنحوله الشديد وطرافته التي لا حد لها وكونه يشع حباً وسخاء روح كان القاسم المشترك في جلساتنا بالمقهى التي تحولت زاوية منها، وكانت لصق حائطها الأخير لما يشبه (الملتقى الثقافي) لنا. (محمد) كان يكتب الشعر بتأثر واضح بمظفر النواب ونزار قباني، وكنا ننبهه إلى ذلك فيرد: أقبل هذا!!. لروحه الطلقة وسماحته ودعاباته البريئة وإخلاصه ووفائه الذي لا حد له لكل مَنْ يعرفه كنا نسميه (محمد..الدُرُ النفيس) لكن اسعد احمد الباقر بروحه الفكهة قلبه إلى(محمد دَرّنَفيس) وبقي هذا الوصف ملتصقاً به ولم يشكل أي عقدة له بل تبناه (محمد) كعلامة متميزة له. محمد جاسم عيسى كان عضواً وممثلاً في فرق بصرية مسرحية عدة ، أسسها رواد الحركة المسرحية في البصرة، وأورد ذلك الناقد بنيان صالح في مخطوطة كبيرة كتبها عن تاريخ (الحركة المسرحية في البصرة) ، لم ينشرها، لكني اطلعت عليها،وكذلك يورد اسمه الأستاذ إحسان وفيق السامرائي في كتابه( لوحات من البصرة.. عبير التوابل والمدن البعيدة)/ص332/ ضمن  أهم نشطاء العمل المسرحي الشباب في البصرة، كتب محمد عدداً من المسرحيات وأسس مع بعض زملائه الفرقة المسرحية في جامعة البصرة، وأخرج بعض مسرحياته التي كتبها للفرقة كذلك، كما كتب السيناريوهات السينمائية وعرضها على المخرج قاسم حول فأعجب بها ، وطلب منه أن يحتفظ بها إلى الوقت المناسب. بعد مجيء البعث للحكم ثانية تعرض محمد وبعض زملائه في كلية الحقوق لضغوط من قبل الأمن الطلابي التابع لحزب القتلة وتم الاعتداء عليهم بشدة وقسوة، وعندما زرته في بيته، الواقع في منطقة الأصمعي القديم (الومبي)، شاهدت آثارها على عينيه ووجهه وجسده النحيل، فتأسفت على ما حصل له. بعد تخرجه انتسب لنقابة المحامين وعند ممارسته المحاماة اكتشف التواطؤ والالتفاف على القوانين لصالح سلطة قذرة ومؤيديها ، وتلمس الانتهاك الإنساني في أروقة المحكمة والموجه بالذات ضد فقراء البشر ، فترك المحاكم وظل يردد ما قاله ( جوزيف. ك) بطل رواية (المحاكمة) لفرانز كافكا:"كلما اقتربُ من بناية المحكمة.. أشمُ عفونة القوانين". ذات شتاء ما قرر محمد السفر إلى (إيران) فاستعار معطفي ، في (عبادان) أفلس محمد تماماً ولم يعد يملك حتى أجرة عودته إلى البصرة ، فباع معطفي لتمشية أموره ، وذكر لنا في المقهى:" انه يثق بأنني لن أطالبه بالمعطف أو ثمنه نهائياً ، لكنه كان يواجه البرد الشديد ويرى المعطف،خلال تجواله في عبادان معلقاً في المتجر ويتحسر على دفئه الذي كان يتمتع به".عندها التقط القاص سلمان كاصد هذه الحكاية وكتب عنها قصة قصيرة بعنوان (معطف السائح المعلق في سوق عبادان) ونشرها في جريدة(الفكر الجديد).غادر محمد جاسم عيسى بصحبة القاص خالد الخميسي إلى الكويت ومنها إلى لبنان وتطوعا في "منظمة التحرير الفلسطينية" وعملا في الفرع الإعلامي فيها، والتحق محمد جاسم عيسى للعمل مع المخرج قاسم حول ، في دمشق، و الذي كان يعد لفلم تسجيلي عن حادثة واقعية قام بها شاب فلسطيني يتسلل ليلاً منفرداً نحو بلده حاملاً ما استطاع من سلاح و يُكتشف من قبل دوريات الجيش الصهيوني فيصطدمَ بها ويقتلَ بعض افرادها لكنهم يجهزون عليه ويمثلون بجثته. وروى محمد ليَ ما يلي: صباح يوم ما في دمشق " قاسم حول" يحمل كامرته وحقيبته وإنا احمل دفتراً كبيراً فيه سيناريو الفلم الذي كتبه قاسم والذي طلب مني أن انتظره في كافتيريا وترك معي ما يحمله. ثم عاد بعد مدة طويلةٍ وهو يحمل كيسا أبيض ثقيلا ومغلقا و لم استطع أن اعرف محتوياته ، طلب مني قاسم حمله، ذهبنا وتغدينا معاً و الكيس معي ، عصراً ونحو الأستوديو للبدء بتصوير الفيلم. طلب مني قاسم فتح الكيس وما أن فتحته حتى أصبت بالرعب ، كان في الكيس الذي كنت احمله طوال النهار يـدٌ بشرية مُجمدة و مقطوعة من الكتف حصل عليها قاسم من فرع التشريح بكلية الطب في جامعة دمشق لغرض استخدامها في الفيلم التسجيلي، وكنت كل ذلك الوقت احمل الكيس ولم يعلمني قاسم بمحتوياته. عاد محمد بعد عام 1973  إلى البصرة ، ثم عين عن طريق مجلس الخدمة العامة ملاحظاً بمديرية التعاون في الموصل وتزوج من فتاة (موصلية) كونه عراقياً ولا يعبأ بما يفرق العراقيين الان ، وأنتقل معها إلى البصرة، وفُرض عليه بالإكراه الانتماء مجدداً لحزب القتلة فرفض ذلك ، واعتقل أكثر من ثلاثة أسابيع في مديرية " أمن البصرة" بتهمة ملفقة، وبعد إطلاق سراحه، عاد إلى الموصل ومعه أسرته الصغيرة . أتلف (محمد جاسم عيسى) كلَ ما كتبَ لسبب لم أعرفه، لكنه ترك فقط كتاباً مخطوطاً بعنوان(قدرات الدماغ البشري الفائقة) وهو دراسة (بارسكولوجية ) تكشف عن ثقافة غنية عميقة متجددة في معرفة النفس البشرية وخفاياها ، وصار عضواً في جمعية (البارسكولوجيين العراقيين) بعد أن ألقى بعض المحاضرات فيها. في عموده الأسبوعي بجريدة الصباح (العدد2764) كتب القاص والروائي حميد المختار مقالاً بعنوان( أبو إيفان) ، وهو الاسم الذي أطلقه (محمد)على ولده البكر جاء فيه:" محمد بن عمي وقد رأيته في حداثة سني وحين كان يزورنا في مدينة الثورة في الستينات ، يقص علينا  قصصه الغرائبية عن الموتى  وحكاياتهم المخيفة  فكان أول مَنْ غرس في داخلي  حب القصص السحرية ذات المنحى الغرائبي الادهاشي". ذكر لي القاص والروائي والمخرج المسرحي (نصيف فلك) ، وهو ابن عمه أيضاً:" انه أول مَنْ حبب المسرح لي خلال زياراته تلك". عاد محمد إلى البصرة، بعد سقوط النظام،وإحالته على التقاعد لبلوغه السن القانونية . في العام الماضي ألقى محمد قصيدة في ذكرى تأسيس الحزب الشيوعي العراقي في الحفل الذي إقامته " محلية الحزب في البصرة". في هذا العام بدأ بكتابة قصيدة عن الشهيد "سلام عادل"، أسمعني قسماً منها، وقرر المشاركة فيها بعد إكمالها في حفل " محلية البصرة" بمناسبة الذكرى الـ (79) لتأسيس الحزب في 31 آذار. في صباح الخامس والعشرين من شباط هذا العام، كنت انتظره ليزورني، كعادته يومياً، ويطرد الوحشة عنيَّ بعد أسبوعين على رحيل(أم ودّْ) و (وضاح) زوجتي ، والتي تجله وزوجته جداً..لم يصل ذلك اليوم إلى مسكني(الدُرُ النفيس..)، ولم يتناول الغداء معي..ولم أعلم هل أكمل قصيدته عن (سلام عادل) أم لا؟. فقد انقض طائر الموت صباحاً عليه .. وهو يستعد لزيارتي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. علاء جاسم المهندس

    حين تطفأشمعة ما ويهفت نورها هناك من يروم ايقادها في ذاكرة الروح من جديد لينعش بها ألما ماكاد يتلاشى ولو لبرهة اليس الالم هو غبار الروح كما قالها محمد خضير .. الا انك ياابا وضاح ايها الانسان الشفاف فأنك بهذا السرد والوصف في شخصية اخي ابو ايفان فأنك اوقدت ت

يحدث الآن

العراق الثاني عربياً باستيراد الشاي الهندي

ريال مدريد يجدد عقد مودريتش بعد تخفيض راتبه

العثور على جرة أثرية يعود تاريخها لعصور قديمة في السليمانية

"وسط إهمال حكومي".. الأنبار تفتقر إلى المسارح الفنية

تحذيرات من ممارسة شائعة تضر بالاطفال

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

مسرحية رائحة حرب.. كايوسية التضاد بين الحرب ورائحته
مسرح

مسرحية رائحة حرب.. كايوسية التضاد بين الحرب ورائحته

فاتن حسين ناجي بين المسرح الوطني العراقي ومهرجان الهيئة العربية للمسرح في تونس ومسرح القاهرة التجريبي يجوب معاً مثال غازي مؤلفاً وعماد محمد مخرجاً ليقدموا صورة للحروب وماتضمره من تضادات وكايوسية تخلق أنساق الفوضوية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram