منذ كنت صبياً وأنا لا أفهم أبداً، كيف تتساوى قيمة طوابع الرسائل، بحيث أن الرسائل التي تُرسل للندن البعيدة تُكلف السعر ذاته التي يُكلفه طابع رسالة تُرسل إلى مدينة قريبة. أيام طويلة، وكلما رأيت جارنا ساعي البريد "عطوان" يرجع إلى البيت مرهقاً يجر دراجته بتعب وملابسه ممزقة بعض الأحيان لعضة كلب ربما، أقول لنفسي: بحق الله! كيف يُساوي طابع رسالة تُسافر آلاف الكيلومترات مع تلك التي تسافر لمئة كيلومتر. أمر غير منطقي مطلقاً.
هل يأخذ المرسل إليه أمر الرسائل في الحسبان، أو أمر الوظيفة المغامرة لبعض البوسطجية؟ الجواب كلا. جارنا "عطوان" كان يحدثني (أما تحت تأثير السيجارة التي يدخنها أو لأنه أراد شحذ خيالي كطفل!)، بأن الكثير من سعاة البريد يهلكون تحت افتراس الوحوش أو تحت هجمات اللصوص. "مع ذلك يصر الناس على إرسال الرسائل"، أسأله. يبدو أن كل ذلك لا يؤثر على المرسل ولا على المرسل إليه، الذي ينتظر براحة بأن يضع ساعي البريد في يده الرسالة متجاهلاً ما يصيب الآخرين، البقية لا تهمه، فهو يعتقد أن كل سعاة البريد يرجعون إلى مكانهم في النهاية.
مرات كثيرة فكرت أن الموضوع غير عادل إلى حد كبير، واقترحت على "عطوان"، الاقتراح التالي: على الحكومة أن تصدر قراراً حكيماً لتسوية الأمر وأن تجعل كل طابع يكون له ثمن يتناسب مع صعوبات الرحلة حتى وصوله للشخص المعنون إليه.
هكذا، إذا كانت الرسالة ترسل إلى أماكن حدودية والبلاد في حرب مثلاً، فأن سعر الطابع، بسبب خصوصية الرحلة والأوضاع المعرقلة للرحلة، يجب ألا ينزل عن المليون دينار، والمواطن الذي لا يستطيع دفع هذه الكمية لأي سبب كان، فأن الدولة تطلب منه مساعدة ساعي البريد في رحلته لتوزيع الرسائل، ويدفع هكذا عن طريق عمله فرق قيمة وأهمية طابع البريد المرسل.
من الجائز جداً أن يحدث للبلاد أن تمر بمرحلة أزمة اقتصادية مثلاً، أمر يجعل الأكثرية من الناس لا تستطيع دفع المبالغ اللازمة للبريد، في هذه الحالة، سيكون أمراً إيجابياً بالنسبة للمواطنين، لأنه سيسمح لهم بالقيام برحلات على طول وعرض البلاد.
من الممكن هنا أن يزعم الحساسون جدا بأن في هذه الحالة سيتحول القسم الكبير إلى صعاليك ومشردين؛ أما ما يخص أولئك الذين يحبون المغامرة بالسفر، فمن الممكن أن يطوروا كل طاقاتهم في كتابة أي شيء، وإن كان تافهاً، لكي يتوصلوا للسفر عن طريق ذلك على حساب الدولة، رغم أن عليهم العمل في هذه الحالة إلى جانب سعاة البريد، والمغامرة بحياتهم في مناسبات مختلفة.
كل ذلك أكيد جداً، لكنه الطريقة الأنسب أيضاً لصندوق الدولة. عدا ذلك، فأن هذا الشكل من الاحتياطات يغير بصورة راديكالية المستوى الثقافي والاجتماعي للناس، لأن نصف سكان البلاد سيكونون مسافرين من هنا إلى هناك إلى جانب سعاة البريد، على خطى رحّالة أيام زمان، بينما تبقى الطبقات المتمتعة في المجتمع مستقرة في أماكنها التقليدية.
من الممكن أن يقود هذا إلى نتيجة عظيمة: فبتحول الفئات الأكثر فقراً من المجتمع إلى رحالة، ستتطور عندهم بلا شك عن طريق ذلك طريقة فلسفية في التفكير، لأنه من الثابت أنه عندما يكون المرء اليوم هنا وغداً هناك، فليس بفضل قسوة الزمن لوحدها، إنما أيضاً بفضل المخاطر العديدة التي تحفّ السفر عبر حدود الجغرافية المعادية، سيتوسع أفق الناس، أمر يصب في الفلسفة حتماً.
هكذا وبهذه الوسيلة، لن يتحسن صندوق الدولة فحسب، إنما المستوى الثقافي لقسم كبير من المجتمع. سيكون ذوو النفوذ والثروة ثلث سكان البلاد، والبقية، يستحوذ عليها الفقراء، بكلمة واحدة "الفلاسفة". وليس من الغريب أن يترك "عطوان" مهنته كساعي بريد. عطوان الذي كان أول فيلسوف في حينا، سمعت بخبر وفاته قبل أيام وهو يجر دراجته البريدية. كان من الممكن أن يفكر بالكلاب السائبة التي ستهجم عليه في الطريق كما فعلت في كل المرات. لكن من أين له أن يعرف، وهو الذي تقاعد منذ زمان، أنه سيموت هذه المرة بسبب انفجار سيارة مفخخة؟ كلا، تلك المعلومة تفوق تصور أي فيلسوف، حتى بحجم عطوان!