تكمن أهمية الذاكرة البشرية في الكثير من المهام التي تؤديها، ومنها تمكينها الإنسان من السيطرة على كامل نشاطاته وإدارتها بشكل جيد، فالخطط والمشاريع التي يرسمها الواحد منّا، يحتفظ بها داخل ذاكرته، ويحتفظ داخلها أيضا بجدول ينظم شروط وظروف تنفيذ هذه الخطط والمشاريع. والذاكرة، من جهة أخرى، تساعدنا على إدارة علاقاتنا بالآخرين، ففيها نحتفظ بالصور الخاصة بهم وهي صور نحدد، بالاستناد لها، أحكامنا عن هؤلاء الآخرين. هناك دائماً أشخاص نحبهم وآخرون نكرههم، وهنالك أشخاص لا نكترث لهم. وهذه المشاعر تتحدد من خلال الصور المحفوظة في الذاكرة، فهذا شخص لا نحتفظ عنه إلا بذكريات ومواقف سيئة، وهذا آخر ذكرياتنا عنه جميلة كلها، لذلك نكره الأول ونحب الثاني. والذاكرة مرنة لدرجة نتمكن معها من تغيير الصور المتعلقة بالآخرين، ومن ثم بمواقفنا تجاههم. فالشخص الذي يسيء لنا دائما ثم يقدم لنا خدمة ما، سنحتفظ له بهذه الخدمة كذكرى جميلة تصطف مع الذكريات السيئة فتحسن بعضاً من تشوهاتها، فإذا حدث وأن تكررت الخدمات والمواقف الطيبة سيتحول كرهنا لهذا الشخص إلى ارتياح وحب. ولولا هذه المرونة التي تتمتع بها الذاكرة لما استطعنا إدارة علاقاتنا بالآخرين بشكل جيد.
الذاكرة، أيضاً، تمثل ما يشبه الأرشيف أو المتحف، وكما أننا نستخدم الأرشيف والمتحف لِنُحُول الآخرين إلى وثائق وتماثيل وايقونات، نستخدم الذاكرة لتحقيق نفس الغرض. ففي الذاكرة يتحول الأشخاص الذين تربطنا بهم علاقات معينة إلى مجموعة ذكريات محفوظة في ملفات خاصة داخل أقسام مستقلة. وهناك باستمرار قسم مخصص للعلاقات العائلية، وآخر للأشخاص الذين نعرفهم من خلال العمل وهكذا. ثم، وبالتأكيد، هنالك قسم معتم ومغلق بأقفال غير قابلة للكسر، ومحمي بعوارض مكتوب عليها "سري للغاية وشخصي وغير قابل للتداول" وفي هذا القسم نُخفي عوراتنا وفضائحنا وجميع ذكرياتنا الخاصَّة، أقصد تلك التي يؤدي الكشف عنها إلى تهديد استقرارنا.
على هذا الأساس تُكَوِّن الذاكرة ما يشبه العالم المتكامل. عالم مزدحم بالوجوه والبيوت والأبواب والشبابيك، شبابيك نحرص على فتحها بداية كل صباح، وأبواب نمر عليها مسرعين ونحن مطرقو الرؤوس خوفاً من أن تنفتح وتخرج علينا عبرها وحوش مخيفة من الذكريات المنسية. وهناك باستمرار ما يجب تغييره في الذاكرة، فربما تجد، في لحظة ما، أن عليك أن تُهَدم الكثير من البنايات في ذاكرتك ليتسع مكانها من أجل استيعاب شخص قرر تواً الدخول إلى هيكل ذكرياتك. شخص يكون كبيراً لدرجة تعرف معها أنه سيتحول إلى رمز خالد وسط ذكرياتك، ما يوجب أن تُهَدِّم من أجله الكثير من الأبنية الشاهقة وتخلى له الأمكنة التي تستحق الاحتفاء ببهائه.
هرم في الذاكرة
[post-views]
نشر في: 26 مارس, 2013: 09:01 م