مرت على هذا العمود ثلاث فترات، في ثلاثة مواقع. وكاد أن يكون في معظمها سلسا على صاحبه، يسيرا على منشئه، حتى بدا وكأنه يكتب نفسه أحيانا من دون تعمِّل ولا تكلف. لعل الذخيرة الداخلية كانت وفيرة، أو لعل المتعة كانت غزيرة، أو لعل السذاجة كانت كثيرة. أو لعل التضافر كان معقودا بين مجموع هذه الأسباب، ليأتي بالحصيلة من دون مشقة.
والمشقة ليست نكدا ولا كدرا اذا توفر الايمان بالعمل، وتحقق الاعتقاد بجدواه، وتعززت القناعة بنتائجه. فعندها تتحول المشقة الى متعة. وفي أوقات ما كانت تبدو لي كتابة هذا العمود ثمرة زواج المشقة والمتعة.
وفي الحالين، السلاسة والمشقة، سلكت أمور العمود. يساعده على ذلك تنقله بين انتماءين، أحدهما قريب من "المقالة الصحفية"، وثانيهما أقرب الى "المقالة الأدبية". الأولى أخف لأنها تأملات في الجاري والحاصل من أحداث الساعة، فهي أقرب الى تعليقات على وقائع السياسة. والأخرى تذهب الى سياحة أبعد في مختلف تيارات الفكر والحياة.
وكنتُ أنجو، على ما أظن، من المحذور الذي يمكن أن تقع فيه "المقالة الصحفية"، بمساعدة الرحابة التي تنتمي اليها "المقالة الأدبية". والمحذور المقصود هو الإنتساب الى التاريخ، والانشداد الى السياسة، وكلاهما قد يجران الكاتب، أو الصحفي، الى أن يكون محازبا أو مجندا أو متعصبا، مما يضعف المصداقية، ويحد من الأفق، ويهدد الكلمة باكتساب طابع التحامل، ويعرِّض الفكر الى آفة الحقد.
والتحامل والحقد غالبا ما يكونان النهج السائد لدى الشعوب المقهورة أو المجهدة. والطامة الكبرى هي أن يكون الكاتب لسان حال هذا النهج. فهو في هذه الحال لا يفعل سوى أن يزيد الطين بلة على قومه. كما انه في هذه الحال يفسخ عقده مع طبيعة موقع الكاتب، أو دور المثقف.
ولقد اختزل كاتب عظيم هذا الموقع والدور بعبارة شهيرة:" لا تبك، أو لا تضحك، لكن إفهم". وهذا هو أيضا موقف القاضي الذي تتوقف نزاهته كليا على الفهم. فلا حكم يمكن أن يكون جديرا بالتقدير اذا لم يستوف شروط التعرف الصحيح والفهم السديد. والكاتب أو المثقف كذلك هو قاضي زمانه، لا لسان حال زمانه كما كان شاعر القبيلة.
وهذا العمود يدين لكل المواقع التي استضافته بالحرية الملائمة لمنظوري وتعبيري عن نفسي. ولكن المشكلة هذه المرة هي مع نفسي. فالحافز الداخلي متعدد الوجوه الذي كان يطلقني حينا كالتيار، أو يدفعني أحيانا أخرى الى الكتابة بمشقة ومتعة، تكاسل وغفا. وذاك حافز كان يحمل إلي شيئا من الرضا، ويغذي همتي وعزيمتي، ويمنحني شيئا من الاعتقاد بفائدة ما أكتب. والأهم من كل ذلك انه كان يمنع كتابتي من أن تكون واجبا مفروضا أو ثقيلا علي. وهذه أسوأ حال يصل اليها كاتب، أو قاض. فإذا أصابتهما يكون التوقف عن الكتابة أو الإجازة عن الحكم بمثابة "واجب أخلاقي".
ونحن نقول دائما أن الإناء ينضح بما فيه. فإذا طفح الغضب أو ارتفعت المرارة أو فار القلق عند الحاكم فإنَّ عليه ترك منصة القضاء فورا الى أن يصفو نفسا ويطيب عقلا. كذلك على الكاتب أن يفعل اذا ظهر ما يشابه هذه الأعراض على إنائه، أو اذا خلا اناؤه أصلا من المفيد كما أظن أنه قد حدث معي
وها أنا أفعل! فلمن اهتم بهذا العمود من الأصدقاء والقراء أقدم اعتذاري لتوقفي عن كتابته، ولصحيفة "المدى" الغراء أتقدم بجزيل الشكر والتقدير على الاستضافة الكريمة، متمنيا لها دوام التوفيق والنجاح.
جميع التعليقات 8
smh
اتمنى ان لا تتقاعد ياصديقي الذكي بجداره
رمزي الحيدر
سوف نفتقدك.
رفل عبد الجبار
الاستاذ العزيز والقدير احمد المهنا يستخدم المعتزلة تعبير سكون النفس عندما يعرّفون العلم. انه عندهم: اعتقاد يطابق المعلوم مع سكون النفس . لماذا تبخل على القراء بهذا لسكون الذي يشيعه قلمك في نفوسهم ايها الكريم؟ قال احدهم لحبيبته يوما: الكرسي الذي بجانبي
ضياء الجصاني
سيدي الفاضل هكذا يتوقف الكبار وعزاؤنا نحن قراؤك المدمنون انك على هذا القدر من الصدق والشجاعة في التعامل مع الحقائق وهي صفات لا يمتلكها الا ذو حظ عظيم وانت ذلك المحظوظ يا صديقي
طالب حميد
تعرف استاذ احمد تعب العراقيين منذ سنوات واليوم زادنى مقالك الاخير تعاسة ولا اقول ذلك لاننى اخاطبك بل اقول مايمتلكنى من مشاعر. اننى صبيحةكل يوم وبعدد ان استتيقظ اهرع الى المدى ومباشرة الى الاعمدة و(احاديث شفوية ) ارجوك لاتفسد على متعتى وانا فى الشيخوخة
احمد الشمري
حييت يا استاذنا القدير على ما كتبته وما تعلمناه منك خلال فترة ما صاغته اناملك الصحفيه التي طالما كتبت بفكرة دون عاطفة..حييت
كاطع جواد
عجيبة هي النفس البشرية وعجيب هو الانسان فإنها لا تهدا ولا تستقر عند حال ،فالشهرة من خلال الفعل البشري والإعلامي هنا مثالا وانت منهم يا سيدي قد تدفع الانسان الى ان يأخذ موقفا حادابالضد من طبعه وسجاياه ..كنت من المتابعين لعمودك في المدى في الفترة الاخيرة وا
عبد الحسين جبر
استاذ احمد ارجوك ابقى متواصل مع قرائك المساكين انا كلما اقرء عمدودك استشعر بان العراق ولاد فلماذ تريد للعراق العقم ارجووووووووك استمر