في واحدة من مشاهد الانتخابات المحلية نلاحظ الأعداد الهائلة من المرشحين ،الذين علقوا صورهم ومشاريعهم وهتافاتهم على الأعمدة والشوارع وبما يبدو للمراقب التقليدي الحرص الشديد لديهم على بناء المدن والنهوض بالواقع المتردي في الخدمات ومفاصل الحياة الأخرى. لكن شيئا من ذلك لا وجود له في عميق نفوس غالبية المرشحين،بل أن الراتب العالي ومجموع المنافع التي يقدمها المجلس والبرلمان تكمن وراء ذلك،وما قضية الوطن والخدمة له ومصلحة أبنائه إلا اليافطة العريضة،والمرئية فقط من ذلك كله.
وفي فحص سريع للدورات السابقة في البرلمان والمجالس المحلية نلاحظ أن العشرات من الذين لم يكملوا دراساتهم الجامعية عجلوا بطريقة او بأخرى بالحصول على البكالوريوس،ولو أنهم كانوا خارج المقاعد هذه لما نالوها ابدا،لأنها لم تعد تشكل اهمية في الحياة اليومية العراقية،لكنها مع المقاعد تلك تكتسب أهمية إضافية،ويدخل أحدنا المجلس البلدي او مجلس المحافظة ليطلع على العديد من اللجان المشكلة،في الكهرباء والماء والمجاري والطرق والسياحة والتربية وسواها لكن المتحقق أين؟ لا أحد يدلك على شيء،وتجد مبنى المجلس والمحافظة مزدحماً بالناس كل يوم،يدخل المئات ويخرج المئات والكل يسعى بين البنايتين،اوراق وملفات وكتب ومخاطبات،ترى لماذا هذا الركض إن كان المجلس قائماً بعمله بالشكل الصحيح،ولو كان المجالس متمّا لأعماله لما شاهدنا هذا الجيش من المراجعين يوميا وهم يقفون على المكاتب متوسلين.
يقول عضو في مجلس البصرة ويؤكد ذلك موظف كبير فيه بأن ثلاثة أو أربعة من اعضاء المجلس هم الذين يعملون بجدية ونكران ذات أما الثلاثين الآخرين فلا ضرورة لوجودهم،بل هم غير موجودين اصلا،ولا احد يسأل عنهم،يحضرون ويغيبون،يذهبون للزيارة وللعمرة ويسافرون للعلاج وغير ذلك لأنهم بلا عمل حقيقي،وعلى صعيدي الشخصي فقد كنت أرى مكاتب لبعض اعضاء المجلس وقد تحولت إلى دواوين عشائرية،أو أماكن للفتاوى،إذ يجتمع عدد من أبناء عشيرته في مكتبه،وهذا أمر يتكرر كثيرا،وتدور فناجين القهوة على الشيوخ،وهي لفظة باتت تطلق على كل ذي عمامة وعقال يدخل المجلس،وهنا تختفي كلمة أستاذ لتحل محلها الله بالخير شيخنا،ومساك الله بالخير سيدنا ولإتمام المهمة فان آذان وعيون الجميع مصوبة تصغي للقناة التلفزيونية التي عادة ما تبث محاضرة عن الدين والطائفة،وهكذا تجد مكاتب البعض من الاعضاء وقد تحولت إلى دكات للجلوس كالتي يجلس عليها المتقاعدون أمام بيوتهم في ازقة الحيانية والجمهورية وخمسة ميل والقبلة.
من يتجول في شوارع البصرة او مركزها بالعشار يجد أن أبناء عشيرتين أو ثلاثة - من العشائر غير البصرية بالأصل- هبوا عن بكرة أبيهم للترشيح لانتخابات مجالس المحافظة،ويستغرب المشاهد من عدد مرشيحهم،من الرجال والنساء،ففي كل تقاطع تفاجئك صورة لأحدهم،لأحداهن، مقرونة باللقب،ولو أنهم جردوا أسماءهم من القابها لما بدت في الموضوع ريبة،وهنا يتوقف المراقب ترى لماذا العشيرة هذه بالذات،لماذا هذا السعي المحموم للفوز،هل أن المدينة بحاجة فعلية لخدمات العشيرة هذه أو تلك؟ وهل هؤلاء من النصح والمقدرة والإخلاص والأمانة على انتشال الناس مما هم عليه إلى بر الغنى والرقي والأمن والسلام،العشائر التي لِمَ ظلت تحتفظ بأسلحتها،وتسمع لعلعة بنادقهم في مناسبة أو من دونها، هي التي تتقدم لتحكم المدينة فيما يغيب الحقيقيون من أبنائها،ترى ما الموضوع هنا؟
مشهد آخر،يعلق مرشح،يقيم في دولة خليجية منذ أكثر من 6 أعوام،صورته ملصقة بصورة رئيس الوزراء نوري المالكي،ولم يكن ضمن حزبه،كان مقربا من حزب آخر،وهناك مرشحون كانوا في الانتخابات السابقة خارج قائمة المالكي،ولم يحالفهم الحظ آنذاك لكنهم اليوم دخلوا في قائمة المالكي،ونرى العديد من المتنقلين بين القوائم السابقة واللاحقة،بمعنى ان المواقف تتغير لديهم 360 درجة من اليمين إلى اليسار،تبعا لطعم الكعكة،(الراتب والمنافع)أما المواقف من السياسة والوطن وتقديم الخدمات فهذه تطلق في التجمعات اليومية التي يقومون بها على نفر من (العظّامة)حيث ترى أن غالبية المرشحين، ضمن ما يندرج بوصفنا هذا،يقيمون الولائم والدعوات الخاصة والأماسي الترفيهية،والتي كثيرا ما تنتهي بمظروف صغير يوضع في اليد ساعة التوديع!
لقد أساءت النخب السياسية الحديثة للديمقراطية بقدر ما أساء القائمون على السلطات لأبناء الشعب،وها نحن نرى كيف تتفسخ القيم الديمقراطية لدينا مثلما نرى كيف تتفسخ وتتعفن مجموعة القيم التي كانت في حافظة المجتمع،نسمع من كثيرين عدم رغبتهم بالذهاب لصندوق الاقتراع،ويسخر آخرون من مجموعة الصور المعلقة،ويتذمر غيرهم من أفعال من سبقوهم،هناك خيبة أكيدة،مستوطنة في نفوس الناس من عدم مقدرة أي من أتى ويأتي من تغيير الحال،بمعنى أن الممارسة الديمقراطية التي كان يحلم بها شعبنا باتت بيد نفر لم يحسن التعامل معها،ولعل النخب الدينية من اكثر المتلاعبين بها،فهي التي تسيدت المشهد السياسي العراقي منذ 10 أعوام بالنتائج هذه،وحتى اللحظة هذه لم نشهد تيارا مدنيا، ديمقراطيا، حرا قادرا على قلب المعادلة لصالح ذات الديمقراطية،إذ الوقت لم يئن في ذهن الناخب،(الطرف الصعب في المعادلة)الذي تتحكم به العشيرة والدين والطائفة إلى الآن،للسؤال:ترى ماذا فعل هؤلاء كي انتخبهم ثانية؟
انتخابات العشيرة والطائفة
[post-views]
نشر في: 30 مارس, 2013: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...