يوسف العاني ليس هذا رثاء لفنان مات! فقد بدأ الكبار يتساقطون واحدا اثر واحد وبدأت اشعر ان (البستان) سيصبح ارضا جرداء بعدهم..! فلا نعود نقول عندنا بستان/ جنة من هالجنان بيها ما تشتهي الانفس/ والفواكه الوان. والارض مفروشة بالسندس/ كلها ورد وريحان.
كما كان يقول الفنان الكبير الذي مات قبل ايام.. عزيز علي.. او اننا نستطيع ان نستسير الدكتور فنقول له: دكتور.. دخل الله ودخلك ما تداوينا. لم تعد هذه الاقوال ناقصة لكي يبقى الكبار في بستان الحياة.. بستاننا الذي عشنا فيه زمنا والفن والابداع فيه يتألق من حسن الى احسن والمبارات والمباهاة تهزان الخطى وتحتضنان الصح لرعايته وتعميقه.. عزيز علي.. رجل تجاوز الثمانين.. وموته سنة من سنن الحياة.. لكن الذي يحز في النفس.. ان يموت ولاندري بموته الاّ بعد ايام وان جيلا بكامله لايعرف من هو عزيز علي لكنه يعرف احمد عدوية ويعرف اسماء كثيرة جوفاء الا من نزق كلامي ولحن مائع وحركات عابثة تعيش بينهم.. لا اضع الحق على هذا الجيل وحده ولكننا نتحمل اللوم.. جميعنا لاننا لم نكن نحرص على هؤلاء الكبار ولا على مكانتهم وفنهم حتى صاروا نسيا منسيا!..آخر مرة التقيت عزيز علي.. في طريقه الى احتفالية الرواد حيث كرم رائدا لفن المنلوج بحق وجدارة واستحقاق. كان يجلس في السيارة،، اقتربت منه وسلمت عليه.. فرح وصرخ لك هلو داد يوسف، قبلته.. قلت له يالله واشرت الى الباص الذي ينقلنا الى مكان الاحتفال.. نظر في وجهي ولم يقل شيئا.. فقد جاء شاب كان معه وحمله الى الباص فقد كان عزيز علي مقعدا.؟ في قاعة الاحتفالات كنت انظر اليه من بعيد.. وهو ينقل ويحمل من مكان الى مكان.. وقرأت الاحتفال في وجهه ووجوه الاخرين الجالسين. عزيز علي.. هذا الاسم الذي كان يهزنا.. ونحن طلبة في الابتدائية ثم في متوسطة الكرخ قبل الاربعينيات وبعدها فيوم موعد قراءة منلوجات عزيز علي والتي بدأها منذ نشأة الاذاعة عام 1936.. كان يوما مشهودا.. ففي تلك الامسية،، تجتمع في بيتنا النسوة والصغار.. وفي قهوة (احمد الجداع) بخضر الياس يجتمع الرجال ويقترب الاولاد من المقهى وكلهم انصات لعزيز علي وصوته يجلجل نص الليل فزيت من نومي/ شلكي؟ الكيلك هوسة بمهجومي، وتتعالى الضحكات.. وتتردد الاحاديث من تعليقات.. ونقاشات فعزيز علي كان اللسان الناقد من دون خشونة او جرح او اسفاف وكلماته منتقاة.. وتأثير غنائه عميقا في القلب والعقل.. فقد كانت البدايات.. وكما يسميها (المقالات الملحنة) لان تعبير المونولوج.. لم يكن بقوة هو.. فقد كان يأخذ عند البعض لونا من التهريج غير المستحب.. ويستمر الصوت الداوي في الاذاعة ويعلن عن موعد آخر.. عصرا.. فتشيع حركة اخرى بين الناس، الحمالون في الخان، والمثقفون في المدرسة وكبار السن والصغار الكل على موعد.. واتذكر اننا كنا نحجز محلا لبيع المرطبات في الشواكة نجلس فيه مبكرين.. ونطلب اكثر من قدح من (الدوندرمة) انتظارا لعزيز علي وهو يعاتب الذين يقصرون بحق بغداد: كالت اسمع يابني واسمع تمام اني بغداد وانا دار السلام والله عجزتوني بالحب والغرام ماشفت منكم ابد غير الكلام!. نهرع راكضين الى الاذاعة لكي نرى عزيز علي خارجا من هناك لنصفق له ونقرأ له بصوت عال مقطعا ادخله في المونولوج نفسه بغداد يابلد الرشيد/ ومنارة المجد التليد.. للشاعر علي الجارم من قصيدته التي القاها عام 1937..! وتسير الحياة ويواكبها عزيز علي.. وتتعالى كلماته نقدا سياسيا يبهر النفوس والعقول كعادته كل اربعاء فنسمع عام 1948.. منه.. منه.. منه.. منه.. كلها منه مصايبنا وطلايبنا كلها منه!.. ويزمر للمستعمرين وعملائهم.. ويردد مناديا العرب.. مستصرخا ضمائرهم وفلسطين العربية تستباح.. وتظل مقالات عزيز علي الشعرية الملحنة علامة من علامات الخطر وجزءا من ضياع انساننا العربي فيقول او يغني عام 1949.. تهنا بها لبيدة وضيعته ويتيه اللي ماله دليل بس نتلافت يسره ويمنى ولاندري ليادرب نميل وين الحيد اللي يرشدنه.. وفي العام نفسه يقرأ لنا (السفينة) ثم (البستان) وصلي عالنبي مالح وطيب لبلبي.. عام 1954 واسكت لاتحجي تبتلي.. عام 1956 وكل حال يزور 1958 ثم.. no وهكذا رسم هذا الفنان لفن (المقالة الملحنة) او المقالة الشعرية الملحنة.. المونولوج مكانة لم يرق اليها.. في تقديري اي فنان آخر.. فقد كان عزيز علي يختلف عن مقدمي المونولوج برصانته وعدم اعتماده على الحركة غير المتزنة كما كان الشائع عند الاخرين في مصر مثلا اسماعيل ياسين او شكوكو.. بل حول صيغة الاداء الى نوع من المهابة التي تخاطب العقل.. وحين توقف راح يعمل في مدرسة الاطفال الموسيقية.. حتى احال نفسه على التقاعد ولم يتخذ النظم والتلحين والانشاد وسيلة للتعيش والارتزاق ولم يظهر في حلقة خاصة باجر او من دون اجر..! فليس غريبا حين يكتشف فوضى الفن وسطحيته واسفافه ان يقول: انعل ابو الفن لابو ابو الفن موراح انجن ما اكدر اكولن بغلتي ببريجي والمن اكولن
ليس رثاءً بل هو استذكار
نشر في: 28 أكتوبر, 2009: 05:23 م