لم يكن متوقعاً يوماً أن لايكون للزلزال السوري، ارتدادات تطاول دول الجوار أولاً، والمحيط الإقليمي لبلاد الشام ثانياً، ولا أن لاتكون للأحداث في دول الجوار انعكاسها على موازين القوى في سوريا، وبمعنى التأثير المتبادل، لكن اللافت هو تسارع وتيرة بروز تلك الارتدادات، إذ تجمعت في أسبوع واحد يبدو مفصلياً في مسار الأحداث، فقد بدأت من تركيا المنخرطة عميقاً في الأزمة السورية، من خلال نداء السلام الصادر عن الزعيم الكردي عبد الله أوجلان، من سجنه في جزيرة إيمرالي، وتلاه اعتذار رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو إلى نظيره التركي أردوغان، على مقتل عدد من الأتراك، كانوا على متن سفينة تسعى لكسر الحصار عن قطاع غزة، برصاص القوات الإسرائيلية، وأيضاً استقالة الحكومة النأي بالنفس اللبنانية، وما تلى كل ذلك في قمة الدوحة، التي تبرعت بالمقعد السوري في الجامعة العربية لمعارضي الأسد.
طبعاً أرجع الأتراك واللبنانيون ما جرى في بلادهم لأسباب داخلية غير مقنعة، غير أن نتانياهو فضح الطابق، حين كشف عن أسباب تتعلق بالأزمة السورية، دفعته برعاية وضغط واشنطن للاعتذار، بالنسبة لتركيا فإن أوجلان الذي تمتع بحماية البعث السوري سنين طوالاً، يقبع اليوم في معتقله نتيجة طرده من سوريا، وهو يدرك اليوم أن توتر العلاقة بين دمشق وأنقره، يمنحه الفرصة لمحاورة أردوغان من موقع قوة، وأن يدفعه لتقديم تنازلات لاترقى لطموح الانفصال، وسقفها الحكم الذاتي بعد الاعتراف بالقومية الكردية، مقابل إسكات السلاح، الذي سيتيح لرئيس الوزراء التركي تعديل الدستور، وترؤس نظام جمهوري في العام القادم، وفيما يتعلق باستقالة حكومة النأي بالنفس اللبنانية، فان ضعف محور طهران حزب الله، نتيجة الأزمة السورية، دفع ميقاتي لتغيير دفة السير، ملتحقاً بالمحور الخليجي الأميركي.
تثبت هذه التطورات، أن ما يجري في سوريا يندرج تحت باب الصراع على النفوذ في المنطقة برمتها، ما يدفع موسكو مدعومة بالصين ودول البريكس لاستغلاله، بغية الانتقال بالعالم مجدداً من ألأحادية القطبية للعالم، بزعامة الولايات المتحدة، والسائدة منذ أكثر من عقدين، وبالتحديد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، إلى تعدد القطبيات، غير أن امتداد أمد الحرب في سوريا، يمنعها من تنفيذ هذا السيناريو، خصوصاً وأن الميزان الإقليمي، يميل لصالح المحور القائم على العداء لنظام الأسد، وليس بعيداً عن المشهد انتصار الرؤية الخليجية فيما يخص اليمن، وانكسار النفوذ الإيراني الذي كان يتسلل إليه من خلال الحوثيين، كما ليس بعيداً عن المشهد، ما تشهده بعض المحافظات العراقية من توتر، يستهدف تحجيم دور رئيس الوزراء نوري المالكي، المتحالف مع النظام الإيراني، والداعم نتيجة لذلك لبقاء الأسد البعثي رئيساً لسوريا، رغم أن بين حزبي البعث والدعوة الذي يرأسه، ما صنع الحداد.
لا يعني كل هذا تصديق رواية دمشق عن المؤامرة الكونية، ضد نظام الممانعة والمقاومة، فللمواطن السوري حساباته الخاصة، المتعلقة بالحرية والديمقراطية وتداول السلطة، والتخلص من نظام الحزب الواحد القائد للدولة والمجتمع، وله حساباته الخاصة المتعلقة بالأقلية المسيطرة على الأكثرية، وله حساباته الطائفية التي طفت على السطح مؤخراً، وحساباته الرافضة للفساد المستشري على خلفية الاستفراد بالسلطة، وتوزيع المغانم على أفراد الأسرة الحاكمة، لكن الواضح والمؤكد أن الكثير من القوى الإقليمية والدولية وجدت في مأساة السوريين فرصة لتنفيذ أجنداتها، في حين يسعى النظام لتوسيع دائرة الاشتباك علّ فيها كوّةً تمنحه بعض الأمل، ولو بخوض المزيد من حمّامات الدم.