صادق الصائغ بعد اسابيع من وفاته تسلمت من قريبة لي مظروفا فيه صورة لعزيز علي، كان واضحا انها من صوره الاخيرة ، ان لم تكن آخر صورة له، مثل هذه الصور تدفع الواحد الى التمعن، واول ما يخطر بالبال انها صورة وداع او تلويحة مشوبة بحس غريزي باحتمالات موت قادم،
رغم انها ملونة ومرتشة وملتقطة في ستوديو خاص، وحسب معرفتي به فانه لم يهتم بالصور، لكنه هنا، مقاد بغريزة شائخة يجلس على كرسي، والى جانبه ابنته (مي) واقفة وهي وأختاها آخر ما تبقى له من عائلته الكبيرة، فابناء وبنات اخيه الذين تركوا برعايته بعد موت الأب، تفرقوا بمصائر متباينة، بعضهم توفي والبعض قتل، والاخر استشهد ومن تبقى فرّ الى المنافي، اما ابنتاه الاخريان، سوزاو وايفون، فتزوجتا وانجبتا، في حين استشهد عمر، وكان في الثامنة عشرة في الحرب العراقية الايرانية، حين انفجرت الحافلة التي اقلته بصاروخ اثناء عودته في اجازة وكان الابن البكر، علي قد مات هو الاخر وعمره سنتان، ولست استطيع محو هيئة عزيز علي، يقطع دربونة (عكد) النصارى الضيقة حاملا بين ذراعيه ملاكه الصغير لينقله بالتاكسي الى مثواه الاخير. انه وجه طفل، رغم الغضون. غمغمت وانا احدق في الصورة. بعض الطاعنين يراوغون الموت، بشرتهم تنكمش، وعيونهم تضيق، وجمجمتهم تتقلص، وشعرهم يشيب حتى آخره، لكنهم يكمنون دائما في ضحكة طفل، ولو تحدثوا لزاد اعتقادك بعبثية المفارقة، هل يمكر خالي اذن بضحكته هذه، ام انها فلسفته الموسومة بالتحدي حتى وهو على عتبة الموت؟ تذكرت الماحتين الاولى لسيدة تشيكية تأملته يوم كان في براغ والتفت اليّ قائلة. ابتسامته ساحرة، من اين له مثل هذه الاسنان؟ والثانية قول للروائي التشيكي ميلان كوندرا، اوه الضحك، الضحك هو العيش بعمق لا نظير له. واعتقد ان هذا ما احسته المرأة التشيكية في عزيز علي ولم تستطع التعبير عنه بدقة، وهو ايضا المضمون الذي يملأ مخيلتي كلما استذكرته وفي المضهد الزمن يقصف والاطفال يولدون ويموتون وابتسامة عزيز علي، انها تعيد الى الحياة شيئا ضروريا شيئا لاتعثر عليه حتى في الوجوه المتفائلة، انها بتركيز اكبر، متحدية وعميقة وتهتز لحساسية العصر، لذا، فان لاينتكس عزيز علي هو انتصار شخصي لي، انتصار للعائلة، لمخيلتي الشعرية وللزمن العراقي ككل. متى احسست بوجوده أول مرة؟ كان يوما ربيعيا على ما اذكر، وكنت انا في رحلة طفولة او حلم، امي سحبتني من يدي وقالت: -سنذهب لنرى خالك في السجن. هكذا وجدت نفسي الى جانبه نجلس على بطانية فرشت في باحة السجن، وحولنا اناس يروحون ويجيئون وكأنهم في (كسلة) كانت امي مشبوحة تسأله عن المصير وهو يلهو بصماخي الحليق درجة الصفر، مطلقا في حناياي نزوة الضحك الكبيرة وانا من ناحيتي كنت سعيدا لان صماخي واذني الكبيرتين كانوا من ناحية مادة الضحك، ومن ناحية ثانية، غطاء لاطفاء وساوس الوالدة، ولقد كان هذا المزاج هو (نوتة) عزيز علي الموسيقية وهو نعمته الكبرى في قراءة الاحداث والنوازل، وانا كنت منحازا له ضد امي، اما الالم فقد كان راكدا في القاع، وكلما تقدم بي العمر زادت معرفتي بمساحته وزاد اعتقادي بأن الطاقة الاوقى التي انارت طريقنا جميعا. انا واثق ان في ضحكته اصلا من الالم العميق لم يكن يريه لاحد، وكلما ادرت شريط (امان امان) وبغداد وهما من اوائل اطلاقاته الغنائية في 1929 امسك بي ذلك الوجع الداكن، ولو تمعنا فيهما مجددا لوجدنا انفسنا قريبين من قلبه، وعدا الالم فانهما ظل جمالي ازرق فيهما يتبدى السبك الموسيقي لرهافة الغريزة. ياهل العرب/ كل شي انكلب/ شفنا العجب/ من هالزمان بس يازمن/ شفنا المحن/ غازي اندفن/ جوه اللحود دنطينا حكنا/ وتجفي شرنا/ مشكل امرنا ولك يازمان وبفضلهما نتوصل الى فجائعية اوزان موسيقية يندر وجودها في الالحان المشابهة (امان امان) كانت عن مقتل الملك غازي، وهو كما نعرف- ما اقل ما نعرف عنه- مغدور على يد الانكليز، متمرد ومساق بضرامات الشباب ويبدو لي انهم قطعوا نفس العراقيين عندما اعدوا له ذلك الكمين الفاجع. ان تجربتنا في الحزن معروفة اغلبها بكائيات يائسة ومبتذلة يستوي في ذلك اللحن والكلام لذا ففي هذا السياق تبدو (امان امان) رفعة تتعدى قصر النظر الموسيقي السائد في المجالين انها جنائزية جليلة يسلخ فيها الجسد، لكن الروح تبقى معاندة ومتحدية حد القسم المغلظ، ويتم التعبير عن هذا بالموسيقى باعتبارها اداته الاساية، اداته الستراتيجية هذا التأليف يجعل من عزيز علي احد ارقى صعدات الموسيقى العراقية، وبرأيي ، وبصرف النظر عن المناسبة، فان (امان امان) تجدر باعادة نظر اوركسترالي، فمساحة الحانها واسعة ومتعددة وضرباتها تصل الى القلب العراقي، محيلة اساه الى سمو ومغيرة يأسه الى ارادة عادلة. انني ابحث في ذاكرتي عن عزيز علي الحقيقي فارى الذكرى تتحول الى دوائر مائية، ويبدو لي في بعض الاحوال انه شخصية فانتازية تثير خيالي الطفولي ولاني مسكون بشيطان التساؤل فقد كان همي ان اراه لا كما يراه الاخرون ولا كما ينقله الوصف الخارجي له، لقد كان وضعه الاخاذ يملأني بالدهشة وتأتي النتيجة بلا شيء، فأزعم انني لم اره وبأن ما مضى هو مجرد اضاءات غامضة مضت بسرعة. ها اني التقط احدى الومضات، عزيز علي يحمل ط
خالي.. عزيز علي
نشر في: 28 أكتوبر, 2009: 05:25 م