سأتفرغ للتفكير بالكتب وادب الرحلات ودور النشر طيلة الاسبوع، فأنا ذاهب لمعرض كتاب المدى. لكن بعض الاصدقاء قالوا لي انني كتبت بتشاؤم يوم امس حين تحدثت عن ازمة على شكل طعون انتخابية رهيبة يمكن ان تحصل بالطريقة الافريقية او الباكستانية، في اول اقتراع عراقي بلا اميركان وبلا مام جلال وفي ظل تراجع دور الامم المتحدة وغياب توافق سياسي. وها انا اقرأ تصريحا للدكتور احمد الجلبي اقسى من كل تصوراتنا، فهو يقول ان المالكي يؤسس لقاعدة مفادها: عليك ان تؤجل اي انتخابات يخسر فيها حلفاؤك! وسيكون معنى هذا امكانية ان يقوم السلطان بتأجيل انتخابات البرلمان للعام المقبل طالما حصل على تخويل من لا احد، بأن يبت في تأجيل الاقتراعات. هل هذا هو اقسى معاني الانسحاب الامريكي؟
وعلى اي حال فإنني اجمع اغراضي للسفر لاربيل، ودونما تخطيط اجول بنظري على الكتب القديمة. هذا كتاب النظام النيسابوري شارح شافية ابن الحاجب في علم التصريف. اتصفحه واحاول قراءة خط قديم لسرمد الفتى وهو يقلد الكبار في فهم الاشتقاقات اللغوية القديمة لكلمة "ألوكة".
اما ذاك فكتاب شرح مطالع الانوار للكاتبي القزويني، وفيه خلاصة لتراث أرسطو المنطقي، الذي راح يقسم وظائف العقل قبل ألفي عام، ولا يدري اننا سنبقى في بابل وكلدة بلا عقل تقريبا بعد القرون الغابرة. الكتاب بحاشية للشريف الجرجاني، مع حاشية اخرى لكاتب السطور الذي كان يومها يحاول تقليد المناطقة في شرح كلام المعلم اليوناني الاول. وقد احببت ارسطو الى درجة ان اول مقال نشرته في حياتي وكان في طهران عام ١٩٩٧، خصص للدفاع عن ارسطو! وكنت احلم يومها انني سأظل اكتب عن مدارس الحكمة وأنهمك في وصف السهروردي ومقارنته بليبنتز وكيركغارد وكانط، ولم اتخيل انني سأنشغل في الانصات عشرة اعوام لتصريحات القائمة البيضاء وكتلة الحل والشد، وأمثالهما من كتلنا العزيزة التي لا تمت لارسطو بصلة.
اما الكتاب الذي لمحته الان فهو "الفلاحة النبطية" للعراقي القديم ابن وحشية النبطي. التحقيق ومقدمته للاستاذ سعيد الغانمي، وفي لقائي الاخير معه نفظت يدي من السياسة وجلست متأدبا للانصات الى مشاريعه في التحقيق والتأويل والاكتشاف، داخل تاريخ الافكار والمصنفات ولغات ثمود والعباهلة والسومريين.
والى جوار هذا، كتاب صديقه الناقد والمؤول الرفيع عبد الله ابراهيم "عالم القرون الوسطى في اعين المسلمين". ويتضمن استعراضا ممتعا لرحلات عبر العالم القديم، قام بها الحموي والمسعودي وابن فضلان وابن حوقل وابن بطوطة، قبل ظهور بن لادن وبن عثيمين، يوم كان الاصطخري والبيروني والغرناطي يستكشفون بلاد الروم والبلغار، وغابات الهند والصين البعيدة.
وكلما زارني صحفي ايطالي او سويدي او ياباني، حاولت ان ألعب معه لعبة "اكتشاف المكتشف". فالصحفي قادم لاكتشاف بلادنا، دون ان استطيع مبادلته الخطوة واكتشاف بلاده. ان كل ما لدي مخترع بيد بني جلدته، من الحاسبة حتى السيارة. وفوق هذا فانه يكتب عن خرابنا. لذلك ألجأ انا الى التاريخ، واتفاخر امام الصينيين بأن ابن بطوطة ويوم كانت الصين مجهولة، وصف مهارة الصينيين في الصناعة، وتحدث عن كسارةالبندق عندهم، وحذاقتهم في فن البورتريه ورسم وجوه الناس. كما اتفاخر امام صحفية من السويد بأن جدنا ابن فضلان زارهم منطلقا من بغداد الفخمة والنظيفة قبل ألف عام ووصف اهل اسكندنافيا بأنهم لم يتعلموا بعد اصول النظافة واللياقة! انني احاول بذلك ان اجعل السيدة تنسى مشاهد الزبالة المقيتة في قلب شارع السعدون بعد ألف عام على لحظة ابن فضلان.
ها انا اشاهد بألم صورة معلمين قتيلين في واسط، واقرأ وصف ابن بطوطة لهذه المدينة قبل ١٠ قرون. المدينة المهملة اليوم كانت حسب الرحالة التونسي اكبر مدرسة للغة يومذاك، وقد شاهد فيها مذاهب متنوعة.
لاختم بكلامه مقالة اليوم "ولما انقضت صلاة العصر ضربت الدفوف وأخذ الفقراء بالرقص وقدموا خبز الارز والسمك، ثم صلوا المغرب وأخذوا في الذكر والسماع (الصوفي) وقد اعدوا احمالا من الحطب فأججوها نارا ودخلوا في وسطها يرقصون ومنهم من يأكل النار بفمه فيطفئها، وفيهم من يأخذ الحية العظيمة فيعض بأسنانه على رأسها حتى يقطعه...".
ان اهل واسط والعراق يا شيخ تونس، لايزالون يرقصون في النيران ويعضون الافاعي، لكنه لهيب لا ينطفئ، وأفاع برؤوس كثيرة، تقطع رأسا فينبت آخر. مدد يا واسط مدد يا اربيل.
رقص عراقي على نار
[post-views]
نشر في: 1 إبريل, 2013: 09:01 م