حاول الإنسان منذ بداية وجوده على الأرض أن يجيب على الأسئلة الكبرى، من قبيل (من أين ولماذا وإلى أين) ونتيجة لضعف بنيته الإدراكية في بداية تجربته، فقد استخدم الأساطير في تشكيل رؤيته عن الكون والوجود، من خلال الإجابة على تلك الأسئلة. وجاءت أساطيره لتشكل تصوراَ (طفولياً) عن الكون والوجود. ثم تطور وعيه ونمت تجاربه الإدراكية إلى درجة تمكن معها من إنتاج الأديان، وفيها عمل على دمج تجاربه في إدراك الواقع مع خياله الذي كان يستخدمه في إدراك ما لا يمكن إدراكه، فأنتج الرؤية ما بعد الأسطورية. ثم جاءت الفلسفة وتبلورت العلوم باختصاصاتها الواسعة فساعدت على تخليص رؤيتنا عن الكون والوجود من الأفكار غير العلمية أو اللامنطقية، ولم تزل هذه المرحلة في اطوار تبلورها.
في المرحلة الأولى لم يكن الإنسان قد بلور بعد خبرة كافية لتفسير الأحداث المحيطة به، فاعتمد الخيال، حتى على مستوى التمييز بين ما يأكله وما يعبده، فكان يمارس طقوس العبادة لروح الحيوان قبل أن يأكل جسده. في المرحلة الثانية ساعده التراكم المعرفي على الفصل بين ما فسره نتيجة للخبرة الواقعية وبين ما لم يقع تحت قدرات تلك الخبرة، فاقتصر خياله على تفسير الحوادث من قبيل أسباب نشوء المطر والبرق والزلازل والخسوف والكسوف.
اليوم اختفت الأسطورة، أو كادت، من ميدان تقديم التفسيرات والحلول، وتخلى الدين، أو يكاد، عن مزاحمة العلم في مجالات اختصاصه. لكن هل وصلنا الآن إلى الاكتمال في مجال كتابة الرواية التي نسرد من خلالها سيرة حياة الوجود ونجيب على جميع الأسئلة فيه؟ أعتقد أن الجواب هو لا. فهل غادرنا مرحلة الأسطرة؟ هذا ما أخاف من مناقشته دائما. أقصد بأنني كلما تذكرت نظرية الانفجار العظيم تذكرت معها اساطير الخلق القديمة، حيث لا اجد أن هناك فارقاً كبيراً بين النتاجين. غاية ما بالموضوع هو أننا استثمرنا معارفنا الحديثة لصياغة أسطورة أكثر إقناعاً لعقلنا المعاصر، إذ الآلية بقيت على حالها، وهي آلية القفز على المعلومات الناقصة عن طريق استثمار الخيال، لسد ثغراتها. في الاساطير القديمة، كما في الحديثة، هناك معطيات متجمعة عندنا، وهناك سؤال أكبر من قدرة هذه المعطيات، مما يدفع عقولنا لعملية سد الثغرات بتخيل الحلول.
بعبارة أخرى؛ أن الاختلاف بين وعي ما قبل التاريخ والوعي المعاصر هو فرق بالتراكم لا بالآليات، فسابقاً لم تكن لديهم تراكمات معرفية كبيرة، ما يعني أن الثقوب المراد سدها في وعيهم كثيرة ما يجعل نتاجاتهم مهلهلة بالنسبة لنا. نحن اليوم عرفنا بالتجربة الأعم الأغلب من مفردات البيئة المحيطة بنا، لذلك فثقوب وعينا قليلة ما يجعل اساطير الخلق عندنا مقنعة قليلاً.
جميع التعليقات 2
إحسان الفرج
تذكرني مقولتكم الرائعة هذه بمقولة للعالم الأنثروبولوجي جيمس فريزر : لقد مرت الأنسانية حتى وصولها الى مستواها الحالي , بثلاثة مراحل , مرحلة السحر , وبعهدها مرحلة الأديان , وبعدها مرحلة العلم.... للعلم نحن العرب لم نزل نعيش بين مرحلة السحر ومرحلة الأديان...
Murtada Faisal
نظرية الانفجارالكوني او الـ( البينك بانك ) نظرية علمية وليست خرافة او اسطورة، لذلك ليس من العدل ان تَذكر هكذا باسطر قليلة ، اقصد ان الطريقة الجيدة لمناقشة هذه النظرية هو بطرح الاسئلة العلمية والبحث عن الحقائق .. تحياتي