تاريخياً، ارتبطت الثقافة العربية الحديثة والعراقية بخاصة برباط السياسة والدين والمجتمع،حتى بات الشاعر الذي لا ترفعه الجماهير على أكتافها ليس بشاعر،والذي لا يهتف بقيامة وسقوط الملك او الزعيم لا علاقة له بالوطن،بل وهو الخائن أيضا،والكاتب الذي لا يتناول هموم العمال والفلاحين والمحرومين في كتبه غير جدير بلقبه هذا،وفي الآونة الأخيرة،بل ومن قبلها كذلك،قالت العامة: إن كل شاعر لا يكتب في مديح النبي ورثاء أهل البيت لا يستحق أن يطلق عليه اسم شاعر،لأنه لم يدخر لقبره شيئا من نور.وهكذا أخرج هؤلاء ثقافتنا من مستواها الفني إلى مستواهم السياسي-الاجتماعي-الديني.
وعبر فهم-هو الأخطر-وقع فيه المثقف اليوم (الشاعر،الكاتب،الفنان...) وتضافرت على ترسيخ خطورته الماكنة السياسية –الدينة-الاجتماعية،صرنا بحاجة ماسة لبناء محرقة كبيرة،او مزبلة -بعمق الهوة التي تفصلنا عن العالم المتمدن-نطمر فيها ملايين الكتب والقصص والقصائد والمخطوطات والنوتات .... ذلك لأنها باتت عبئا ثقيلا على ذاكرتنا التاريخية وعلى مكتباتنا العامة والخاصة،بل هي لا تساوي ثمن حملها إلى كيس القمامة،وما القصائد التي كانت تمجّد صدام حسين والقصص التي كتبت عن تسويغ الحرب وسواها ببعيدة عن ذاكرتنا،نحن أبناء منتصف القرن الماضي،وهي متوالية أزمنة عربية بامتياز،لأننا لو فحصنا نصوص كبار الشعراء والكتاب الموهوبين لوجدنا فيها ما لا يختلف من قريب او بعيد عن ما دُوّن مديحا لصدام حسين ومعركته.
يكتب الروائي د.لؤي حمزة عباس في مدونته ردا على ما كتبه الناقد علي حسن الفواز بخصوص لقاء بعض المثقفين العراقيين برئيس الوزراء نوري المالكي قائلا :"قرأت تصور الأستاذ الفواز بشأن زيارة المثقفين لرئيس الوزراء،ودفاعه عن ضرورة لقاء المثقف بالسياسي في سبيل حوار خلاّق يواصلان من خلاله النظر المشترك لمستقبل وطنهما"،ثم يقول :"وساءني استخفافه بوجهة النظر المعترضة على اللقاء".... ثم يقول :"لكنني أعاود النظر إلى الصورة المنشورة وأسأل نفسي من جديد عن السبب الذي دعا فناناً مثل كوكب حمزة لأن يكون عضواً في لقاء ينظّمه شاعر معروف....." ويختم لؤي بقوله:" أما كان بإمكان الأستاذ كوكب أن يعتذر عن اللقاء ويجلس هادئاً في شرفة غرفته في الفندق يتأمل الرماد الذي خيّم على المدينة منذ أكثر من خمسين عاماً وما يزال، ويفكّر بطريقة أكثر جدوى في خدمة الحياة الثقافية في العراق ؟
وهنا علينا أن نتصور المشهد ثانية،هناك نخب ثقافية،معروفة بعطائها وأهميتها في الثقافة،يقابله مسعى حكومي لرعاية المشهد هذا،وهذه متوالية ايضا،دأب الحراك السياسي-الثقافي على الإتيان بها،وهنا لا نخوض في النوايا،ولا نستغور النفوس،بل نفترض حسن النية،لكننا سنقلب المشهد على النحو الآتي:هل يمكننا صناعة ثقافة وطنية،قومية خارج هيمنة أو رعاية السياسي المباشرة؟،وما جدوى وجود ورعاية السياسي للثقافة،ولماذا لا نعتقد بأنهما مؤسستان تتقاطعان أبداً،وأن اليد السياسية التي تملك المال والقرار هي من يتحمل نجاح وإخفاق الثقافة في أي مكان من العالم،ترى متى ترتقي النخب السياسية إلى فهم المعادلة التي تقول:"بأهمية ووجوب قيام المؤسسة السياسية بصناعة الثقافة،وترسيخ قيمها،بعيدا عن دخول ذلك في برامجها السياسية،وما تقدمه وترعاه وتحرص على جعله نسيجا اجتماعيا هو من أولى مسؤولياتها في الحكم.
أعتقدُ أن الفنان الكبير كوكب حمزة مثال ممكن هنا،وما قدّمه للأغنية والفن العراقيين بشكل عام لا يختلف على جوهره اثنان،لكن مشاركته في اجتماع يدعو له رئيس الوزراء اختلف عليها كثيرون،وهذا ما وجدناه في مدونات الاصدقاء،وما ينسحب على كوكب حمزة ينسحب على العديد من الأسماء الكبيرة في ثقافتنا العراقية،وكان اللقاء الذي دعا له صدام حسين وحضره عدد من جيل الرواد،نهاية الثمانينات نقطة خلاف كبيرة،توقفنا عندها بمرارة،وهناك من لم يتمكن من حسم أمرها حتى اللحظة،ومن يقول بعدم وجود تشابهه بين لحظة حضور هؤلاء ولقائهم صدام حسين أو المالكي محق وغير محق أيضا،مع صعوبة العثور على الفارق الكبير بين الرجلين لكننا(نسمع أغنية قاسم السلطان عن صدام ثم نسمع أغنية السلطان نفسه عن المالكي)أو نتذكر الكاتب حاكم محمد حسين الذي قتل في زمن حكم صدام حسين منتصف الثمانينات لحظة تذكرنا لمقتل هادي المهدي في زمن حكم المالكي،ولا نملك الوثائق التي تدين أحداً من المقتولين،لكننا نملك وثيقة غيرها تقول الحكومة في أي بقعة عربية قاتلة للثقافة،قاتلة للمثقفين سواء ان التقتهم أو لم تلتقهم،فهي لا تسعى لبعث وتأسيس ثقافة وطنية حقيقية خارج مرمى السياسة،أي سياسة، من جهة، بل لا تسمح بوجود مثقفين يفكرون بصناعة ثقافة وطنية قومية يسخرون من خلالها بمشاريعها السياسية. ويتعقّد المشهد أكثر بوجود مثقفين ما زالوا يعتقدون بأهمية اللقاء بين الفريقين.نقاط خلاف جوهرية ما زالت تفصل بين فهم المثقف للوطن والوطنية وما بينهما وبين فهم السياسي،رجل الدين شيخ العشيرة لهذه.