مازلت عند وعدي بأن لا اكتب هذا الاسبوع في السياسة. نحن في حفل قراءة بمعرض المدى في اربيل. وسأشارككم شذرات مما اقرأ وسط جمع حلو من الصديقات والاصدقاء جاؤوا من المهاجر البعيدة والقريبة ومن مدن عراقية عديدة.
بالامس ذكرت ما قاله ابن بطوطة عن مدينة واسط ورقص العراقيين على النار. اما اليوم فقد قرأت حديث الرحالة ابن جبير حين خروجه من الحج نحو العراق قبل ٧٠ سنة تقريبا من دخول هولاكو الى بغداد، وهو يصف قبيلة خفاجة والكوفة والحلة وحادثة تشبه مأساة جسر الائمة وقعت يومذاك. ويصدمنا بوصف عن بغداد يستحق ان نحدق فيه، بوصفه صورة سجلها رجل غرناطي مسلم عن العراق قبل ٩ قرون.
وبينما كنت اتصفح هذه الرحلة، جاء شاب من الناصرية يقول انه قصد اربيل لشراء الكتب من معرض المدى. صافحني بحرارة، واشتكى انه لم يجد في معرض الكتاب رواية عزازيل للمصري يوسف زيدان. انه يذكر لي ان الطلب على هذا الكتاب يتزايد، بعد ان افشيت في مقالات سابقة سرا مفاده ان زعيم التيار الصدري يحب رواية ذلك الكاتب المصري، عن راهب في حلب تتنازعه قواعد اللاهوت واسئلة الفلسفة.
وعموما فأن الصورة الشائعة تفترض ان خرابنا في العراق جاء بعد غزو هولاكو، لكن ما يثبته ابن جبير في الرحلة يكشف اننا "خربانون" من زمان! وان عهد الرخاء الذي نفاخر به لم يتواصل الا بعد المأمون بقليل.
رحلة الاندلسي بن جبير، تقوم بوصف مسهب لطريق الحج، ثم يغادر الرجل مكة نحو الكوفة ويتغزل برائحة التاريخ في تلك الارجاء، ونوع النسيم الذي يستنشقه قرب نهري العراق. لكنه يتفاجأ وهو المحمل بملاحم مدرسة اللغة ودار الحكم، ان الكوفة خربة رغم سوقها الكبير. يقول "الغامر منها اكثر من العامر". وبينما ننتظر منه مزيدا من التفاصيل، نجده يعلق سبب الخراب على شماعة قبيلة عراقية شهيرة، فيواصل "ومن اسباب خرابها قبيلة خفاجة المجاورة لها فهي لا تزال تضر بها". وكأن اهل الاندلس والمغرب كانوا يلقون باللائمة دوما كما في طريقة ابن خلدون، على القبائل العربية، في خراب المدن. وهذا مبحث عويص سأتهرب منه، وعلى صديقنا عماد الخفاجي ان يقاضي عشيرة بن جبير بهذا الشأن بعد ان يقرأ كتابه بشكل جيد.
يقدم الرجل وصفا تفصيليا كذلك، وقبل ٧٠ سنة من هولاكو، لمسجد الكوفة. يقول "الناس تصلي عند محراب المسجد، حيث كان يصلي علي بن ابي طالب... في ذلك الموضع حيث ضربه الشقي عبد الرحمن بن ملجم بالسيف".
ويتحدث عن عراقيين يائسين وحزانى جاؤوا من كل البلاد، للصلاة والدعاء هناك، طلبا لرحمة السماء.
والوضع في الحلة لا يختلف كثيرا، ويكتب بن جبير ان "الحلة مدينة كبيرة عتيقة الوضع، مستطيلة لم يبق من سورها الا جزء من جدار ترابي". ويقدم وصفا مهيبا سندباديا للفرات، يعكس انتعاش العراق كممر لا للحجيج وحسب، بل للتجارة ايضا. يقول "الفرات نهر كبير زخار تصعد فيه السفن وتنحدر". فقبل اختراع السيارات وانشاء الطريق الدولي، كان الناس يروحون ويغدون عبر رحلات نهرية ممتعة حسب رحالتنا.
ان القطاع الخاص ظل دوما بحاجة الى هذا البلد، لكن سوء الادارة الحكومية داء وبيل كما يبدو، فالرحالة الاندلسي يحدثنا عن عودة الحجيج وتزاحمهم عند منطقة النيل بالحلة فوق جسر، وعن حادثة انتهت بغرق خلق كثير هم وحيواناتهم.
يقول "على نهر (متفرع من الفرات) يسمى النيل، جسر عليه ازدحام، اغرق كثيرا من الناس والدواب في الماء، فتنحينا الى ان زال الكرب".
ويبدو ان هذه الحوادث كانت "عادية" اذ مر عليها صاحبنا مرور الكرام، ليبدأ بوصف دار السلام، بغداد. لكن وصف بغداد في كتاب الاديب القادم من غرناطة، صدمة سأعود لها غدا او بعد غد.
ان تقديم صورة متكاملة عن وضع بغداد والعراق قبل ٧٠ سنة من هولاكو، لامر يتطلب مقارنة وبحثا، وقد تكفلت به بنحو او بآخر مراجع تاريخية مهمة. ولست هنا سوى قارئ لواحد من عيون التراث، اشارك صدمتي للقارئ الكريم.. واتخيل تاريخا طويلا من الحسرة، لاحظه الغرناطي في بكاء العراقيين قرب محراب الكوفة يومذاك. وقد يظل الرحالة يكتبون عن بكاء اهل العراق ٩ قرون اخرى، طالما عجزنا عن تصحيح الاسئلة والاحلام، في مدن "الغامر منها اكثر من العامر". رحم الله بن جبير.
خرابنا قبل ٧٠ سنة من هولاكو
[post-views]
نشر في: 2 إبريل, 2013: 09:01 م