بغداد / شاكر المياحتصوير : سعدالله الخالدي انطلقنا من مركز العاصمة بغداد وتحديدا شارع السعدون الى هدف حددناه مسبقا (حي طارق)، ولكي نجتاز الحبيبية والاورفلي لابد من ان نسلك شارعا مستقيما بدا لنا مقطع الاوصال، اجزاء منه معبدة، واخرى مخربة (لا ادري هل التخريب كان بفعل فاعل ام بسبب تآكل اسفلته الذي عفا عليه الزمن حتى شاخ وهرم واسلم نفسه لحتمية الزوال؟)، وترابية كأن الحضارة والتقانة والحداثة لم تقربه،
ولم تصل اليه بعد، بيوت توزعت على جانبيه اهلها يعيشون خلف التاريخ وهم يقتربون من عبور حاجز العقد الاول من الالفية الثالثة. هذا هو المشهد الاول، المشهد الاخر عند بوابة حي المنتظر، سواق عفنة اتخذت مجاري لتصريف المياه الثقيلة، تقطعها انابيب مياه الشرب البلاستيكية (الصوندات)، فضاءاتها اضحت مكبات للنفايات والازبال، حسبتها اول وهلة منطقة طمر صحي، او هي اطلال مضارب بدو عصفت بهم الصحراء حينما ضنت عليهم السماء بالغيث. ستة الاف منزل، هكذا ازعم، بعضها يشبه (اقنان السياب) والبعض الاخر منها ليست سوى جحور او كهوف لاذ بها الناس من برد وحر وغبار، استأجروها بمبلغ خمسين الف دينار شهريا من آخرين غلظت قلوبهم، وتلاشت في اعماقهم خصال الانسان الادمية، ربما المستأجرون استسهلوا مبلغ الايجار، او هم سكنوها تبعا للقول القديم (مرغم اخاك لا بطل). في حي طارق، مواطنون يتعايشون مع الخيول والحمير والاغنام والابقار بحميمية، لانها بعض وسائل رزقهم ومعاشهم اليومي. هذه صورة للمساحة الاوسع من هذا الحي، والصورة الاخرى التي تمثل مفارقة غريبة ومثيرة في آن واحد، تلك المنازل الفارهة التي انشئت على وفق احدث التصاميم المعمارية (دبل فاليوم) وبأحلى الزخارف والتلاوين التشكيلية التي تضاهي دور الاوروبيين او على غرار بيوت الخليجيين، لوحة سريالية ميدانية وعلى الواقع الارضي، غير انها تختلف تماما، فاللوحة السريالية التشكيلية يكتمل جمالها ومعناها بريشة فنان يمتلك الوعي والثقافة والذوق. لوحتنا (الطارقية) مخربة لسطح الارض وما عليها من زرع ونبات ومشوهة لها، فقناة الشرطة التي اريد لها ان تكون معلما نزهويا تغذيها مياه دجلة الخير، امست اليوم ثلاثة مستنقعات اجتمعت فيها كل روائح العالم الكريهة التي تهتف للموت والانقراض، وذوبان الاجساد والانفاس في أتون الغبار والتلوث البيئي والزحار. مايكروبات، جراثيم، فايروسات، هي كل ما تختزنه صدور وبطون وأعين واجساد ابناء هذا الحي المبتلى بشتى الابتلاءات، وجوه الاطفال مصفرة، وشاحبة لدى الشبان، ومغبرة وكئيبة هي وجوه الكهول والشيوخ والعجائز، فالذي يواسي ابناء حي المنتظر، هم ابناء حي (الرضا)، ومن يواسيهما معا هم ابناء حي (الحميدية). احياء تلاصقت ببعضها، ثم تكاثرت كما (الاميبيا)، تكاثراً انشطارياً غير معقول هو الاقرب الى الخرافة او الاسطورة. ويظل حي طارق يحبو باتجاه من يتلمس له العافية ويمد له يد العون والانقاذ. لم نكن لنصل الى هذه الاحياء لولا تلك الهمة العالية، والشعور الوطني، والتعاون المخلص الذي حظينا به نحن كادر (المدى) من لدن منتسبي الفوج الاول من اللواء الرابع والاربعين التابع الى فرقة المشاة الحادية عشرة، آمرا وضباطا ومراتب، ولما ابدوه من حماس لمرافقتنا، والاجمل ان هذا قد حدث مصادفة، ومن دون موعد سابق، نعم كان محض مصادفة. والاجمل ايضا تراسيم وجوه منتسبي ذلك الفوج وذاك اللواء التي كانت على قدر من السماحة والبشر، لن اسمي احدا بل اقول بصدق وامانة وبشرف مهني، كلهم كانوا رائعين ومخلصين. وهم الذين مهدوا لنا سبل الوصول الى قيعان احياء الفقراء. البداية..أمام حفارة البوكلاين قادنا (الملازم الاول حمود وصحبه) لنتوقف عند نقطة تفتيش مدخل (حي المنتظر)، لما ابصرنا حفارة عملاقة من نوع (بوكلاين) وقد انهمك ربانها بحفر خندق لم نكن نعرف ماهيته، وقد احاطت بها جمهرة من الناس (اطفال وصبيان وشباب ورجال وشيوخ) وقد تداخلت ازياؤهم مع بعضها الوانا واشكالا (تراكات، شيرتات، دشاديش، يشاميغ وعكل، وشورتات) وهم يرقبون حركة الحفارة، نازلة، صاعدة. انزويت بثلاثة شبان اولهم (محمد فالح والي): من اطلق عليه اسم حي طارق؟ - لا العرف من سماه بهذا الاسم، لاننا ومنذ وطئت اقدامنا ارضه وهو يحمل هذه التسمية، مشكلتنا الاساسية تتمثل بعدم وجود شبكة لمياه الشرب، وشوارع وازقة المنطقة ما تزال لحد الان متربة وغير مبلطة فهي مغبرة ومتربة صيفا، وغارقة في الأوحال والأطيان شتاءا، والاكثر تأثرا بهذا الواقع هم الاطفال وتلاميذ المدارس، والاشكالية الاخرى هي بعد المدارس عن المنطقة اذ يضطر التلاميذ لقطع المسافة بين المدرستين الوحيدتين والتي تبلغ اكثر من خمسة كيلومترات سيرا على الاقدام ذهابا وايابا. زميله (رافد محمد) داخله قائلا: عدد نفوس حي المنتظر اكثر من 170 الف نسمة وهو مرشح لان يضاهي تعداد مواطني مدينة الصدر مستقبلا، وهو يفتقر لأبسط الخدمات، خذ مثلا الاسلاك الناقلة للطاقة الكهربائية تتعرض وبشكل يومي الى قطوعات مستمرة تشكل خطورة على ارواح المارة والمواطنين الاخرين، فضلا عن تردي شبكة مياه الشرب، والماء الذي يصلنا يحمل روائح نتنة، ناهيك عن افتقاره الى شبكة الصرف الصحي (مؤشرا بيده): انظر الى هذه الساقية التي تحمل الينا العديد من الامراض، فاذا ما تعرضت للانسداد فان المياه الثقيلة ستنساب عبر البيوت، ويتداخل معه زميله الاو
حي طارق.. المياه الآسنة والطرق الوعرة والأزقة المتربة ابرز ملامحه
نشر في: 28 أكتوبر, 2009: 05:53 م