ختمت مقالة الأمس بالتعبير عن صدمتي بما قاله الرحالة ابن جبير الأندلسي عن بغداد، ونويت لقسوة ما ذكر، أن لا أنقل حديثه. لكنني سأحاول وصف صدمة هذا الغرناطي بدار السلام، فقد جاء محملا بأساطير عن عاصمة الرشيد، لكنه وجد خراباً في الأبنية والنفوس قبل ٧٠ عاماً من دخول هولاكو علينا. ولم يتسن لابن جبير سوى أن يقتبس من (أبو تمام) قوله:
لا أنت أنت ولا الديّار ديّار
(الديّار بتشديد الياء، أي ساكن الدار).
وفي رواية: لا الدار دار ولا الديّار ديّار. حتى كأنه وجد مدينة أخرى مختلفة. مقارناً بين ما سمع من أخبار عن دار السلام وعصرها الذهبي وزهوها، وما رأى في آخر ٧٠ سنة من العصر العباسي من خراب في العمران ونقص في التمدن. الى درجة أنه يقسو كثيراً على العراق ويقول ما معناه: لولا ورع ابن الجوزي وفصاحته، ولطف فقيه الخراسانية ومواعظه وتقواه لخسف الله الأرض بأهل المدينة.
فابن جبير يكتب خطابا طويلا مسجوعاً في وصف أخلاق البغداديين والعراقيين منزعجاً من غرورهم وتمجيدهم ببلادهم. ويقول "كأنهم لم يسمعوا ببلاد أخرى". وكأنه القادم من مباهج اسبانيا والبرتغال حيث كانت الأندلس، متعجب من غرور اهل بغداد بمدينتهم التي خرب كل كرخها ونصف رصافتها حسب نقله.
ولعل ابن جبير غفل عن أن جور الزمان المتواصل لم يترك للعراقيين سوى التغني بالماضي الجميل، حتى في آخر سبعين عاما قبل دخول هولاكو.
إن تسجيلات ابن جبير تقول للمتتبع انه كان من الممكن لأي جيش متوسط الاستعداد، ان يهزم العراقيين في تلك اللحظة، فكل شيء (خربان) لا يستحق عناء الدفاع عنه!
لكن ابن جبير لا يفوته وصف جمال البغداديات الى درجة انه يلجأ للدعاء طالبا من السماء ان تعصمه من فتنة العيون السود!
يخرج الرحالة الغرناطي من دار السلام ميمما الموصل، ويبدو في تسجيله نسخة مبكرة لصحفيي الزمان المعاصر، فيدون المشاهد ببراعة ويقرأ الأمكنة بتأويل لذيذ. يقول انه متشوق لواحدة من أحلى المدن سماها المتوكل سامراء أو "سر من رأى" بكل فخامة وبذاخة الإمبراطورية الآفلة. لكنه حين يبلغها يصطدم بخراب الحاضر فيقلب اسمها قائلا إنها صارت "عبرة من رأى". ويجعلنا ابن جبير في تجواله نشعر أننا أمام شاهد نادر على انهيار حضارة كبيرة، نستذكر قول ابن خلدون في وصف تلك الحقبة ضمن مفتتح مقدمته "وكأنما نادى لسان الكون، العالم بالخمول فبادر للإجابة".
ان ابن جبير يجد عزاءه لاحقا حين يتجنب سامراء ويدخل تكريت التي وجدها نصف عامرة، وصدماته لا تتوقف إذ يقول "وأهل تكريت أحسن أخلاقا من البغداديين" مقارنا بخديعة في البيع والميزان تعرض لها في دار الخلافة!
وقد جعلني ابن غرناطة اضجر من تاريخ العراق فتناولت تاريخ الجبرتي مؤرخ القاهرة قبيل وأثناء حملة نابليون على مصر. وكعادتي مع الكتب فتحت صفحته الأخيرة، فوجدته قد ختم الجزء الثاني من كتابه بطرافة واختصار، فهو يقول عن سنة ١٧٩٤ "لم يحدث فيها شيء سوى جور الأمراء وتتابع ظلمهم". انه أروع اختصار لحكاية عالمنا عبر الزمن.
ان المؤرخ المصري يعرب عن ملل من تسجيل تاريخ الظلم والانحطاط في فسطاط عمرو بن العاص، ويجلس مترقبا "حدثا جليلا". يشعر بيأس ويلجأ في وصف سنة ١٧٩٨ الى رصد "نزول النوازل وموجبات ترادف البلاء المتراسل، ووقوع الإنذارات الفلكية، والآيات المخوفة السماوية، فمن أعظم ذلك حصول الخسوف الكلي ختام السنة القمرية، بطالع الجوزاء المنسوب إليه إقليم مصر" ويسارع هنا الى القول بأنه رأى إشارات الفلك تصدق إذ "حضر طائفة الفرنسيس (جيش نابليون) في أوائل السنة التالية" وحصل غزوهم لمصر وصعودهم على رأس أبو الهول.
ان الجبرتي يفترض أن للأوطان أيضا كما للإنسان، برجاً وطالعاً فلكياً. فإذا كانت مصر جوزائية مثلي، فماذا يكون برج العراق؟
أخلاق تكريت وجمال العراقيات
[post-views]
نشر في: 3 إبريل, 2013: 09:01 م
جميع التعليقات 5
حازم فريد
بالعافية عليك جمال تكريت ،روح أسكن بيها وخلينا في بغداد الخربة . أتمنى ان أعرف الى ماذا تريد أن تصل؟؟؟؟
محمد عبد الله
تحياتي اخي العزيز ( لكنك نسيت خراب البصرة ونسيت الجاحظ والحسن البصري والفراهيدي يا ان البلاد تتجه نحو الخراب) شكرا
كمال
كم تعجبت ولا ازال..طوال مشوارك الصحفي..ولحد الان لم ييفهم احد ماذا تريد...تمنيت ان تكون لديك جرأة االانتحاري وتقول ماذا تريد...هل دين الجنس السامي مثلا ..هل تدين العقل الششيعي...هل تدين الشيطان..البدو.. او ربما تحتقر اصلك العربي الاجلف..ماذا تريد..كلنا نع
سيد علي الموزاني
السلام عليكم انا اتصور بان الكاتب الاخ سرمد يتجه نحو منزلك خطير وغير لائق من الجهة الفنية فهو يحاول في كتاباته ان يكون العامل المأجور والكاتب المدفوع الثمن من قبل مؤسسة معينة وهذا مما يقلل من مهنيته وشخصيته مع شديد الاسف
خلف الجبوري
(لولا ورع ابن الجوزي وفصاحته، ولطف فقيه الخراسانية ومواعظه وتقواه لخسف الله الأرض بأهل المدينة.)لقد قرات ( المنتظم في تاريخ الأمم والملوك المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ) وكان انطباعي عن مادونه من الحوادث في ب