هل يمكن أن نتخيّل عالماً لم يظهر فيه تولستوي أو فكتور هيجو أو صاحب ملحمة دون كيشوت، هل يمكن قراءة تاريخ العرب دون التبحر في حكايات الطبري، من سيبقى من اسبانيا سنوات فرانكو أم نساء لوركا؟ أحرار علموا البشرية قيمة وأهمية الحياة، بالأمس وأنا ادخل معرض المدى للكتاب في أربيل شعرت وكأنني أتجول في عواصم العالم، وخيل إليّ وأنا انظر إلى رفوف الكتب أنني أجوب شوارع روما، أو اقطع المسافات بين بيوت ماكوندو بحثا عن العقيد اورليانو، وان أفلاطون سوف يطل في أي لحظة بردائه الطويل ليقول لي: "لا يمكن زوال تعاسة الدول ما لم يتمتع حكامها بفضيلة التعلم، إن طلب العلم شرط لمن يتقلد زمام الحكم، والسبب هو ما يتميز به الحاكم المتعلم من حكمة وصدق"، وان سيمون دي بوفوار ستخرج من صفحات روايتها "المثقفون" لتعيد على مسامعي درس الحرية الذي قال فيه البير كامو لسارتر ذات ليلة "لا يمكن للإنسان العاقل ان يختار العيش في قفص، إلا إذا أراد أن يربط مصيره بإيديولوجيات ميتة" فيما سارتر ينظر الى وجه صديقه اللدود الشبيه بوجوه نجوم السينما ليعيد على مسامعه درس المثقف الملتزم : "لا يمكن للمثقف ان يحاكم عصره دون الخوض في أوحاله"، وان امرء القيس لن يحدثني عن ملك ضاع وإنما عن قلب متيم بالهوى: "أغرك مني أن حبك قاتلي وأنك مهما تآمري القلب يفعل"، وان الإمام الفقيه بن حزم سيلقي على دراويش حكومتنا درسا في المحبة: "الحب أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، وليس بمنكور في الشريعة، ولا محظور في الديانات".
انظر إلى الكتب التي غصت بها قاعات المعرض واسأل رفيقي في رحلة التجوال سرمد الطائي كيف يمكن قراءة كل هذه الكتب وقبل أن ترتسم الدهشة على معالم وجهه أقول له ما قاله فرنسيس يبكون لأحد طلبته "بعض الكتب وجد لكي يذاق وبعضها لكي يبتلع والقليل منها لكي يمضغ ويهضم" من اجل هذا القليل قادتني قدماي باتجاه مذكرات أندريه مارلو وزير ثقافة ديغول والتي أطلق عليها عنوان "لا مذكرات" أتصفح الكتاب في طبعته الجديدة ليعدني شريط الزمن الى المرة الأولى التي قرأت فيها كتاب مارلو الذي أراد له ان يكون شهادة على عصر مثير أصر فيه الجنرال ديغول على ان تكرس الثقافة لأقصى حد من اجل إزالة آثار الحرب العالمية الثانية من نفوس الفرنسيين، هذا الجنرال الذي اختلف مع رئيس وزرائه جورج بومبيدو ذات يوم لأن الأخير قال في اجتماع الحكومة "الشعب الفرنسي فوضوي وغير منظم ويحسن بنا ان نقوده، ليعترض ديغول قائلا "إن كلمة قيادة غير لائقة، لا يمكن ان تقاد الشعوب على أهواء سياسييها".
أتصفح كتاب مالرو وتقع عيناي على جملته الشهيرة "ترى في اي عالم من الفوضى سنعيش لو لم يكتشف الإنسان الكتابة" وتأخذني هذه الجملة إلى ألبصره حيث الاصمعي يعلم الجاحظ معنى الشغف بالكتاب "الكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والجار الذي لا يستبطئك، والصاحب الذي لا يتملقك، ولا يعاملك بالمكر، ولا يخدعك بالنفاق، تلك كانت بصرة الكندي والمندائي وخلف الأحمر، فيما اليوم تغزونا أسراب جراد الجاهلين الذين يرون في صوت فيروز عورة، في صفحة أخرى اجد صاحب اللامذكرات يتجول في شوارع بطرسبوغ يتفحص الأمكنة التي عاش فيها صاحب الجريمة والعقاب ويصلني معه صوت إيفان في الأخوة كارامزوف ينتفض لكرامة الإنسان: "إذا كانت المشيئة الإلهية تقتضي بتعذيب إنسان بريء على يد رجل بهيم، فانا أعيد بطاقتي الى الله".
انظر إلى رفوف الكتب وأعيد السؤال على سرمد: ترى كيف سيكون شكل العالم لو لم يكتب فيه ديكنز روايته "الآمال العظيمة"، ولم يحول فيه المتنبي الشعر إلى نصوص في الحكم، ولم يعلمنا عمر بن أبي ربيعة أن مديح النساء أبقى أثرا من مديح كل الحكام، بماذا تضاهي فرنسا العالم لو لم يقرر ناشر مغامر أن يطبع أزهار بودلير ليضع الشعر الفرنسي ليجعل ندا لشكسبير وغوته وسيرفأنتس، ماذا لو لم يأخذنا جويس في رحلة يوليسيس عبر شوارع دبلن، هل يمكن أن نتخيل بريطانيا من دون سؤال هاملت الأزلي: أكون أو لا أكون، ماذا يبقى من انقلابات أمريكا اللاتينية غير ذكرى حكايات يوسا، وساماراغو، وايزابيل اللندي ومعلمها ماركيز، هل تاريخ هو شافير أم بورخس، وماذا يبقى من أميركا لو لم يكتب لها همنغواي "الشيخ والبحر".
تخيل عالما لم يكن فيه ابن سينا وابن خلدون وابن رشد.أعطتنا الكتب الانس والمنفعة في هذه الحياة. وحولت لنا الارض الى قرية واحدة قبل ان يكتشف الامر منظرو العولمة، كتب زودنا أصحابها بالحكمة ومؤرخون حفظوا لنا حكايات التاريخ وعبره، وشعراء صنعوا لنا أحلاما وآمالا وعوالم مشرقة، كتب ندين لها بجمال الحياة، لولاها لكنا نرى بغداد مجرد دار للسكنى وليست قصيدة رائعة للمتنبي ونرى العيون الجميلة ولا ندرك أنها تقتلننا لأن في طرفها حورا، ونغرق في كهوف الظلام، ولا ندري أن ابن خلدون قال قبل ألف عام "كلما اوغلت الامم بالبداوة، كانت ابعد ما تكون عن الحرية" لكن قادة امتنا اليوم يا صاحب المقدمة الشهيرة يوغلون وباسم الحرية، بالتطرف ونهب الثروات، والانتهازية، ويمتطون الديمقراطية لقهر الناس وإذلالها.
عالم بلا كتب.. بلا معنى
[post-views]
نشر في: 3 إبريل, 2013: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 3
علي رحماني
لا استطيع التعبير عن اعجابي بهذه المقالة الرائعة فهي حقا تستحق الكتابة بماء الذهب ايها الرائع ابدا الف والف تحية
كاطع جواد
نعم يا سيدي فقد ذكرتني مقالتك الجميلة هذه ببيت الشعر الخالد لابي الطيب (اعز مكانا في الدنا سرج سابح. وخير جليس في الزمان كتاب) نعم انه خير جليس وخير انيس، انا عن نفسي عندما تنتابني الهموم اهرع لتناول كتاب ليأخذ همومي ويبسطها بعد ان يأخذ بيدي الى عالم ج
محمد عبد الله
طاب يومك بكل خير تسلم اخي العزيز انك وضعك يدك على جرح اوغل المتخلفون في زياد دماءه ان اي شعب لايستمع الى الموسقى ويقرأ سبقى متخلفاً تحياتي