TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > هندسة البصرة وشجعان آخرون

هندسة البصرة وشجعان آخرون

نشر في: 10 إبريل, 2013: 07:01 م

يبدأ المرء يومه بالتحديق في بقايا الخوف. إنه يلازمنا ويصيبنا بالدوار ويعبث بأولوياتنا، ولا فكاك منه إلا بالتحديق في معناه، تحديقا ينتج رائعة كتابية كمقال محمد خضير المنشور في ١٠ نيسان، وكشجاعة طلاب كلية الهندسة بالبصرة وهم ينحتون من الخوف دلالة حرية.. وكالماء الذي تسكبه خلفنا الروائية لطفية الدليمي بحنان أم، ونحن نغادر نحو بغداد.

ومن بقايا خوفنا، الإذلال الرسمي الذي نتعرض له أمام حواجز قواتنا الأمنية. مؤسسات العسكر التي ننفق عليها ما يعادل نصف موازنة الأمة المغربية، لا تجد طريقة لمنع العنف سوى باحتجازنا في السيطرات. بغداد صباحا هي نقطة تفتيش عملاقة يرتهن داخلها ٨ ملايين نسمة، دون أن تنجح في منع الموت. وعلى شارع أبي نؤاس جسر معلق جميل لكنه خائف يقطع شارع الشاعر في نهايته. والذعر مثل العدوى. فوزارة الاتصالات بدت هي الأخرى خائفة وتقطع أبا نؤاس من بدايته.

إنها عشر حجج تمضي دون أن نجد طريقة مهذبة للخوف الحكومي، لا تقوم بإهانة الأهالي وتفتيش كل العراقيين ١٠ مرات يوميا دون العثور على ذبّاحي الشعب.

والرقم ١٠ صار ملازما لأيامنا مؤخرا. النائب الشجاع جواد الشهيلي وهو محاسب مالي خبير، يكشف لنا صبيحة الذكرى العاشرة لسقوط صدام، أن ١٠ أطنان ذهب اختفت من خزانة المركزي. لكل سنة طن، براق متلامع. الشهيلي لا يخاف، وقد سبق أن سخر بجرأة من محاولة السلطان رفع الحصانة عن النواب، ولا يزال الناس يتابعون وصلته على يوتيوب وهو يقول: إن أمام المالكي خيارات محدودة، أن يرضخ لقواعد الشراكة في صنع السياسات، أو أن يتعرض لعزل يليق بأخطائه، أو أن يعود إلى طويريج!

الشهيلي يمتلك الشجاعة لأنه يخاف من ظهور صدام حسين آخر. الخوف لدى الشهيلي، سبب لامتلاك الشجاعة.

أديبنا الكبير محمد خضير يرسم خوف الحروب، التي أقامت في بصرته "باصوراء" ويستغل كل جرعات خوف العراقيين القاتلة، لكتابة نص هو الأجمل بين ما نشر حول ٩ نيسان. يبتكر على الورق ملجأ أيتام بحجم ناطحة سحاب من طراز أمباير ستيت الأمريكية. يربط هذا البرج، ببرج بابل رمزاً للبلبلة والسحر والخراب.. متجاوزاً صورة البابليين في اللعنات التوراتية، إلى خطوط على طاولة رمل الجنرال تومي فرانكس، وحديث اوكتافيو باث عن حقيقة من يكتب، وأحيانا "لا حقيقة من يقرأ".

في البصرة طلاب شجعان يحتجون على عميد كلية الهندسة، في ذكرى سقوط صدام. العميد قطع الأشجار في الباحة، خوفا من أن تتحول إلى ستر لعاشقين. أقرأ الآن أن مسؤولا في الكلية يهدد الطالبات: إن لدي صورا لفلانة وهي تجلس إلى جنب فلان. أوقفوا مظاهراتكم وإلا فسأرسل الصور للعشيرة!

البصرة مدينة البحر محتشمة اليوم أكثر من اللازم، وتتكيف في الوقت نفسه مع حبها الأبدي للحياة، بطريقة تثير الإعجاب. لكن في العراق من يقطع الأشجار بذرائع "تربوية" متخلفة. هل يعقل أن نحلّ مشاكل الفتيان والفتيات بقطع الشجر؟

إن تظاهرات الشباب في الكلية، صناعة موقف حر داخل أجواء التخويف. في وسع الشباب أن يعلّموا عميد التعليم، أن يخوض مفاوضات متحضرة حول المشاكل، بدل أن يستقوي بحزب السلطان. إن طريقة خوف الحكومة خالية من التهذيب.

معرض كتاب المدى كان فرصة للقاء أحلى مبدعي البلاد. عبد الله صخي وزهير الجزائري ونجم والي وهشام داود وأحبّة آخرين. بعض الشباب راحوا يسألون عن أدب الخارج وأدب الداخل. والأمر جعلني أتأمل الروائية لطفية الدليمي ومثلها أصدقاء كثيرون من مبدعي "الداخل" تعرفت عليهم أنا القادم من المهجر أو المنفى عام ٢٠٠٣، داخلا بغداد التي لا أعرف فيها أحدا. و مازلت أتذكر كيف غمرني كرمهم وحوّلهم إلى أصدقاء كبار أتعلم منهم الكثير. لكن قسوة السنوات الماضية جعلتني محجوزا في "الداخل" كما نقلتهم إلى حجز في منافي عديدة. أقول لها: ست لطفية، مسيرة الخوف لا تُبقي حدوداً بين داخل وخارج.

ثم نحمل حقائبنا عائدين إلى بغداد بينما تستعد لطفية للعودة إلى عمّان، لكنها تستوقف موكبنا، وتقول: كانت الأمهات في ما مضى يقمن بسكب الماء خلف خطوات المسافر، خاصة إذا قصد جبهة حرب. تتقمص لطفية شخصية كل أمهاتنا، وتسكب الماء على الخطوات العائدة إلى بغداد، المدينة التي صارت أكبر نقطة تفتيش في العالم، وتنشغل ربما بتكوين مشهد لكتابها القادم. فمن رحم كل الخوف يظل في وسعنا سكب مزيد من الماء، بشجاعة. ويمكن للأمهات العظيمات دوما، أن يصببن الماء ويخففن من ذعرنا وسط صراخ صانعي الخراب ومحترفي الخديعة، من قطوعات أبي نؤاس، حتى جامعة البصرة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 4

  1. أحمد هاشم الحسيني

    مقالة جميلة وهادئة والأمل أن تكون كل مقالاتك القادمة على هذا المنوال فقد أتحفتنا برأي حصيف وشكرا لك مع لفت إنتباهك الكريم الى خطأ نحوي حيث تقول : أتأمل الروائية لطفية الدليمي ومثلها أصدقاء كثيرون ، والصحيح أصدقاء كثيرين ، دمت موفقا .

  2. سيف الشبوط

    خوفنا من ظهور صام اخر ستتوارثه الاجيال لحقب من السنين ...

  3. كاطع جواد

    هنالك معادلة ظهرت في الفترة الخيرة ان الدولة التي تنشر المفاهيم الدينية بحجة حماية المجتمع من الوقوع في الرذائل نجد ان مجتمعها يبتعد عن تلك المفاهيم التي تروج لها الحكومة ويحدث العكس هذه ايران وتركيا جارتنا الاولى تمارس الاسلوب القسري بنشر الفكر الديني و

  4. ضياء العبادي

    مقالة جميلة تشخص أهم مواطن الخلل في النظام الجديد ، اذا جاز لنا تسميته بالنظام ، وهو المعالجات غير المدروسة لبعض الظواهر التي يعتقد النظام انها تشكل تهديدا للمنظومة القيمية للمجتمع ، كما تجعلنا نحن الذين عشنا أجمل أيامنا خلال فترة الدراسة الجامعية الى الح

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: ماذا يريد سعد المدرس؟

العمودالثامن: الخوف على الكرسي

العمودالثامن: قضاء .. وقدر

العمودالثامن: لماذا يطاردون رحيم أبو رغيف

لماذا دعمت واشنطن انقلابات فاشية ضد مصدق وعبد الكريم قاسم؟

العمودالثامن: أين لائحة المحتوى الهابط؟

 علي حسين لم يتردد الشيخ أو يتلعثم وهو يقول بصوت عال وواضح " تعرفون أن معظم اللواتي شاركن في تظاهرات تشرين فاسدات " ثم نظر إلى الكاميرا وتوهم أن هناك جمهوراً يجلس أمامه...
علي حسين

كلاكيت: رحل ايرل جونز وبقي صوته!

 علاء المفرجي الجميع يتذكره باستحضار صوته الجهير المميز، الذي أضفى من خلاله القوة على جميع أدواره، وأستخدمه بشكل مبدع لـ "دارث فيدر" في فيلم "حرب النجوم"، و "موفاسا" في فيلم "الأسد الملك"، مثلما...
علاء المفرجي

الواردات غير النفطية… درعنا الستراتيجي

ثامر الهيمص نضع ايدينا على قلوبنا يوميا خوف يصل لحد الهلع، نتيجة مراقبتنا الدؤوبة لبورصة النفط، التي لا يحددها عرض وطلب اعتيادي، ولذلك ومن خلال اوبك بلص نستلم اشعارات السعر للبرميل والكمية المعدة للتصدير....
ثامر الهيمص

بالنُّفوذ.. تغدو قُلامَةُ الظِّفْر عنقاءَ!

رشيد الخيون يعيش أبناء الرّافدين، اللذان بدأ العد التّنازلي لجفافهما، عصرٍاً حالكاً، الجفاف ليس مِن الماء، إنما مِن كلِّ ما تعلق بنعمة الماء، ولهذه النعمة قيل في أهل العِراق: "هم أهل العقول الصّحيحة والشّهوات...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram