اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > ربّات الحزن العراقيات

ربّات الحزن العراقيات

نشر في: 13 إبريل, 2013: 09:01 م

لكل ثقافة طعمها الخاص، وهو طعم لا يمكن لغير أهل هذه الثقافة أن يشعروا بكامل السحر الموجود فيه، لارتباط هذا السحر بالتراث وكامل تفاصيل الحياة، فعندما يسمع أحدنا أغنية تراثية لمجتمع ما، فقد يطرب لها، لكن لا كما يفعل ابن نفس المجتمع الذي تثير الأغنية في وعيه حكايات منسية أو مشاعر مكبوتة تجعل تذوقه مختلفاً لحد كبير.

قبل أيام ذهبنا لأداء زيارة "الأربعين" لقبر الوالد رحمه الله، وهناك حدث ما حفر بئراً عميقاً من الحزن داخل روحي وفجر مكمناً هائلاً من الألم لم أكن أتخيل وجوده هناك.. فعندما وصلنا القبر هرعت النسوة وارتمين عليه بمشهد جنائزي لا يمكن وصفه، ثم صنعن حلقة حوله وانبرت واحدة منهن وراحت تضبط إيقاع نواح بقية النسوة بصوت يقطر حزناً وبكلمات تستحضر تأريخاً هائلاً من الضيم.

وعلى الرغم من أن الحزن ابتلعني بشكل كامل، لدرجة لا تترك مجالا للتأمل، إلا أن الحس الانثروبولوجي الذي أربيه في داخلي، لم يتركني دون أن يشدني لعلاقة غريبة تربط بين المرأة والرجل في طقوس الجنائز العراقية، فأشعار النواح وصوت النائحة ترسم الرجل بصورة الحامي وليس الحبيب، في علاقة تُظهر المرأة وكأنها مادة معرضة للهتك الدائم، ما يجعلها بحاجة ماسَّة لبقاء البطل بجانبها، لذلك هي تنادي خلفه: «كون الوِلي ينباع بالسوك... شريته وضميته بصندوك... لأن الوِلي طلاع الحكوك».

تجد المرأة في هذه الثقافة الجنائزية، أشبه بحق سرعان ما يضيع بمجرد موت الرجل الحامي أو "الوِلي" كما تسميه النساء. وهناك دائماً ثمة رجل غريب يكون بلا أي شهامة ويترصد باللحظة التي تبقى فيها المرأة وحيدة ليضطهدها بدونية بشعة، ولذلك نجدها في حالة خوف دائم منه: «يتهدد علي ويكلي اجيتچ... دوار ما يحميچ بيتچ... اهلچ كضوا وآني وليتچ». وهي عندما تنادي فقيدها فإنها تفعل ذلك برجاء أن ينهض لحمايتها: «وديت اله بليلة شماله... خفك شاربه والغيض شاله... العاركچ لاهدم احواله».

أو هي تناديه لتسأله عن مصيرها، أو تعاتبه على المجهول الذي تركها له: «يا بوي ما تسمع نحبتي... وعلى شاربك سكطت دمعتي... شلون البصر بيه وبختي؟»

مع ذلك لا يخلو نواح ربات الحزن العراقيات، من ملامح حنو وشفقة تغمزان إلى مشاعر الحب ولا تصرحان بها: «كون الهوى ينباع صوغات... لاهديلك جبال محملات... ينسم على كبور المظلمات» أو «نكت صايته وهدمه الخفيف.. وسير على باب المضيف... كلمن يذكره ايكول يا حيف».

يبقى صوت النائحة العراقية يُحزن أي سامع له، لكن لأ أحد غير أبن الثقافة المتشرب بروحها المفجوعة، يقع على كامل الحزن المكنوز في هذا الصوت القادم من وراء تأريخ مؤلم وموغل بالقدم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. أحمد هاشم الحسيني

    أبكيتني والذي أخذ روح أبيك ويتمك ، تغمده الله في واسع مغفرته ورضوانه وأظل روحه في ظل رحمته وربط على قلبك بالصبر ولا أراك سوء ولا مكروها .

  2. امراة

    مع الاسف لوجود كتاب بهذه السذاجة ليومنا هذا ووصف المراة بهذا الضعف وان الحامي الوحيد لها هو الرجل رجاءا ايها الكاتب غير نظرتك عن النساء وانت تقول تريد ان تنمي الحس الانثروبولوجي بداخلك فليس مجموعة من النساء يمثلون ثقافة معينة من المجتمع العراقي تعممه على

يحدث الآن

العراق الثاني عربياً باستيراد الشاي الهندي

ريال مدريد يجدد عقد مودريتش بعد تخفيض راتبه

العثور على جرة أثرية يعود تاريخها لعصور قديمة في السليمانية

"وسط إهمال حكومي".. الأنبار تفتقر إلى المسارح الفنية

تحذيرات من ممارسة شائعة تضر بالاطفال

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: العميل "كوديا"

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

 علي حسين ما زلت أتذكر المرة الأولى التي سمعت فيها اسم فولتير.. ففي المتوسطة كان أستاذ لنا يهوى الفلسفة، يخصص جزءاً من درس اللغة العربية للحديث عن هوايته هذه ، وأتذكر أن أستاذي...
علي حسين

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (1-2)عطلة نهاية العام نقضيها عادة في بيت خوالي في بغداد. عام ١٩٥٨ كنا نسكن ملحقاً في معمل خياطة قمصان (أيرمن) في منتصف شارع النواب في الكاظمية. أسرّتنا فرشت في الحديقة في حر...
زهير الجزائري

دائماً محنة البطل

ياسين طه حافظ هذه سطور ملأى بأكثر مما تظهره.قلت اعيدها لنقرأها جميعاً مرة ثانية وربما ثالثة او اكثر. السطور لنيتشه وفي عمله الفخم "هكذا تكلم زارادشت" او هكذا تكلم زارا.لسنا معنيين الان بصفة نيتشه...
ياسين طه حافظ

آفاق علاقات إيران مع دول الجوار في عهد الرئيس الجديد مسعود پزشكیان

د. فالح الحمراني يدور نقاش حيوي في إيران، حول أولويات السياسة الخارجية للرئيس المنتخب مسعود بيزشكيان، الذي ألحق في الجولة الثانية من الانتخابات هزيمة "غير متوقعة"، بحسب بوابة "الدبلوماسية الإيرانية" على الإنترنت. والواقع أنه...
د. فالح الحمراني
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram