TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > فارس التي أفسدت روما

فارس التي أفسدت روما

نشر في: 14 إبريل, 2013: 08:01 م

كتاب لمفكر كبير من عصر النهضة الأوروبي، ومترجمه مفكر مغربي معروف، وموضوعه أسباب انهيار الرومان، هو ذريعة للهرب من الحدث اليومي، واستكمال لمقالات سابقة عن المؤرخين والتاريخ. إن حصيلتي من معرض المدى للكتاب تسرقني ثانية إلى عالم القراءة.
الكتاب هو "تأملات في تاريخ الرومان" لشارل مونتسكيو المتوفى في باريس قبل ٤ عقود من الثورة الفرنسية. الرجل الفرنسي ابن القرن ١٨ تأثر بالتراث القانوني للإنكليز وراح يصوغ نظريات حول دور الدساتير والقوانين في حياة الأمم. اختبر فرضياته على الرومان ثم انطلق لكتابة مؤلفه الأشهر "روح القوانين" الذي سرعان ما أصبح أساساً لليبرالية أوروبا ونهضتها الديمقراطية ودفع علم الاجتماع السياسي إلى فضاء رحب، كما يوضح المفكر المغربي عبد الله العروي الذي ترجم الكتاب إلى العربية.
وكقارئ مستعجل دوما، أحاول هنا إشراك القراء ببعض الملاحظات المثيرة التي يمكنها أحيانا توحيد أزمان متباعدة. فنحن في القرن الحادي والعشرين داخل عراق بلا كهرباء، نقرأ ملاحظات سجلها فرنسي من القرن ١٨ حيث بدأ اختراع المحرك ثم الكهرباء، وهو يقرأ منهجيا تفاصيل عظيمة عن انبثاق ثم سقوط حضارة الرومان المثيرة للجدل منطلقة من روما المحاطة بثلاثين حصنا قبل نحو ٢٠ قرنا.
مونتسكيو يبدو حزينا على "كسل" أهالي أوروبا في القرن ١٨ وهو يصف "بحسرة" كيف كان الجندي الروماني مثابرا قبل نحو ألفي عام "يمشي مهرولا، يقطع عشرين ميلا (٣٦ كم) في خمس ساعات، ويحمل على ظهره ٦٠ رطلا، يتدرب باستمرار على الركض". وهذه صورة بارزة لطاقة الأمل والإلهام التي تتلبس كل الحضارات في لحظة صعودها، مثل حماس عريس جديد.
ولكن ما يستوقفني هو: إذا كانت أوروبا تعد كسولة عند مونتسكيو قبل ٣٠٠ سنة رغم أنها ظلت منهمكة تلك اللحظة في اختراع الماكنة البخارية وثورة الصناعة، فماذا نقول نحن الذين نتأمل ملايين العراقيين وهم يزدحمون صباحا داخل "الكيا" ذاهبين للتكدس في مصانع لا تصنع، ودوائر مترهلة، تزيدهم يأسا وكسلا وعدم رغبة في إنجاز شيء، أفواههم مفتوحة لعطايا النفط، يستوردون بها ملبسهم ومأكلهم وحتى مياههم الصالحة للشرب؟
وبحسب الكاتب، فإن روما لم تزدهر بقوة محاربيها فقط، بل بإبداعها القانوني الموروث من فلاسفة اليونان. وفي روما حيث يسود القانون، كان الشعب يرضى بقرارات السيناتورات والحكام فيتم الاستقرار. أما لدى خصومها في قرطاج (تونس الحالية) فكانت أهواء الحاكم هي الغالبة، لذلك كان الشعب ساخطا يريد كل فرد منه أن يصبح رئيسا. ولذلك متى نشبت الحرب في روما، توحدت مصالح الجميع. أما في قرطاج فكانت الحرب تزيد الانقسام. إلى أي حد نعيش معضلة قرطاجية في العراق يا ترى؟
وقد اجتمعت أسباب السعادة لدى الرومان لأن ملوكهم كانوا دوما الأفضل موهبة والأعلى همة وإرادة، حسب مونتسكيو. فالأمة المحظوظة هي التي تنجح في معرفة أكثر أبنائها موهبة، وتزج بهم في الصفوف الأمامية. أما حين يشبه الحاكم أسوأ محكوميه ويكون أقلهم موهبة، فإن المملكة تعيش أكثر أيامها سوادا. وهل يحق للشعب أن يستغرب سوء حاله، حين يعجز عن فرز الموهوب من الفاشل؟
إن مونتسكيو لا يبخل علي أنا ابن الشرق الأوسط بشيء من المديح، فهو إذ يقر بتفوق المشاة الرومان، فإنه يمتدح في عرضه لملاحظات مؤرخين قدماء، فرسان خراسان والعرب لأنهم "من أجود رماة الأرض، لجأ إليهم الأباطرة فجندوا منهم أكبر عدد ممكن" وحسب مفكرنا فإن أجداد شعوب الشرق الأوسط، وعبر ما يشبه "الشركات الأمنية"، ساعدوا في إنقاذ جيوش روما من براثن البرابرة الجرمانيين. ولذلك وحين انبعثت في الأجداد روح الإلهام في القرن السابع، مع ظهور الإسلام، لم يترددوا في بناء واحدة من أسرع الحضارات.
إن دورنا كشرق أوسطيين لم يقتصر على مساعدة الرومان في أيام عزهم. فبلاد فارس، وبجنود من أمم مختلفة بينها مجندون عراقيون، دخلت حروبا طويلة مع الروم. وفي هذا الإطار يسرد مفكرنا الفرنسي جملة أسباب لتفشي ضعف الرومان، أكثرها طرافة قوله "أقام أباطرة كثيرون في آسيا يحاربون ملوك الفرس، فأدى طول المجابهة إلى المشابهة، فتطلع الأباطرة إلى أن يكونوا مثل خصومهم الفرس موضع تقديس.. وما أن انتشرت هذه العادات الآسيوية، من بذخ وأبهة حتى ألفتها النفوس". والنتيجة أن بذخ الملوك عزلهم عن الشعب. "لم يعد الإمبراطور بشوشا يصغي للجمهور" وعزلته فصلته عن الواقع، وقادته إلى انغلاق أذنيه ثم إلى الوهم والفساد، وانتهت بسقوط الرومان. حكايات الأمم تختلف كثيرا، لكنها تتشابه في شكل النهاية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 4

  1. المدقق

    يالثارات اهل الجسر .. عنجوووووووووووووووكي

  2. احمد

    فبلاد فارس، وبجنود من أمم مختلفة بينها مجندون عراقيون، دخلت حروبا طويلة مع الروم .. من الخطأ تسقيط واقع حالي على حدث تأريخي، فعراقيو اليوم ليسوا بأي حال من الاحوال امتداد لمن سكن حدود العراق كدولة حاليا في الماضي.

  3. لطفية الدليمي

    عرض رائع لكتاب اساسي من كتب مونتيسكيو شكرا سرمد لتذكيرنا بما جرى لروما وما اسهم فيه اسلافنا واسلاف الفرس من صناعة مجد روما - مونتيسكيو هو الذي قال ( الشعوب السعيدة لاتاريخ لها ) وقد كتبت عن هذافي احد مقالاتي في المدى - فالشعوب المزهوة بأمجاد غابرة

  4. كاطع جواد

    في حرب الايام الستة عام ١٩٦٧ كانت القوات الاسرائيلية تتقدم شرقا وجنوبا وشمالا وهي تحتل اراضي عربية دون ضجيج.. اما إذاعاتنا فكانت تنشد أمجاد يا عرب أمجاد .. لم يتغن الأسرائيليون بأمجادهم بل افتخروا بحاضرههم فربحوا المعركة وخسرناها نحن بسبب الربابة وابو ز

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: ماذا يريد سعد المدرس؟

العمودالثامن: الخوف على الكرسي

العمودالثامن: قضاء .. وقدر

العمودالثامن: لماذا يطاردون رحيم أبو رغيف

لماذا دعمت واشنطن انقلابات فاشية ضد مصدق وعبد الكريم قاسم؟

العمودالثامن: أين لائحة المحتوى الهابط؟

 علي حسين لم يتردد الشيخ أو يتلعثم وهو يقول بصوت عال وواضح " تعرفون أن معظم اللواتي شاركن في تظاهرات تشرين فاسدات " ثم نظر إلى الكاميرا وتوهم أن هناك جمهوراً يجلس أمامه...
علي حسين

كلاكيت: رحل ايرل جونز وبقي صوته!

 علاء المفرجي الجميع يتذكره باستحضار صوته الجهير المميز، الذي أضفى من خلاله القوة على جميع أدواره، وأستخدمه بشكل مبدع لـ "دارث فيدر" في فيلم "حرب النجوم"، و "موفاسا" في فيلم "الأسد الملك"، مثلما...
علاء المفرجي

الواردات غير النفطية… درعنا الستراتيجي

ثامر الهيمص نضع ايدينا على قلوبنا يوميا خوف يصل لحد الهلع، نتيجة مراقبتنا الدؤوبة لبورصة النفط، التي لا يحددها عرض وطلب اعتيادي، ولذلك ومن خلال اوبك بلص نستلم اشعارات السعر للبرميل والكمية المعدة للتصدير....
ثامر الهيمص

بالنُّفوذ.. تغدو قُلامَةُ الظِّفْر عنقاءَ!

رشيد الخيون يعيش أبناء الرّافدين، اللذان بدأ العد التّنازلي لجفافهما، عصرٍاً حالكاً، الجفاف ليس مِن الماء، إنما مِن كلِّ ما تعلق بنعمة الماء، ولهذه النعمة قيل في أهل العِراق: "هم أهل العقول الصّحيحة والشّهوات...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram