الرئيسية > أعمدة واراء > ما وراء التلال

ما وراء التلال

نشر في: 14 إبريل, 2013: 09:01 م

من الأسئلة التي تُلح علي حين أسعى إلى السينما، واحد عن بلدان أوروبا الشرقية، التي كانت معسكراً اشتراكياً ذات يوم. لمَ كانت أفلام مخرجيها، وما زالت بعد زوال أنظمتها الشمولية، أفلاماً تميل إلى الجدية ورفعة المستوى. مبرأة بصورة عامة من السطحية والضرر اللذين يحصدهما المشاهد من معظم الأفلام الغربية، والأمريكية بصورة خاصة؟هل السبب قائم في الحرية وغيابها، القمع وغيابه، الرقابة وغيابها..؟
وهل هذا يعني، إذا انتفعنا من المنطق، أن الحرية الغائبة والقمع والرقابة عناصر تحفز باتجاه المستوى الجدي ورفعة المستوى؟ أعتقد ذلك. ولكن اعتقادي لا يعني أن الحرية والديمقراطية توفر الرداءة والسطحية وحدهما. الحرية توفر كلا السطحية والجدية على صعيد النوع. ولكن تفيض السطحية على صعيد الكم. وهذا ما نراه في الفيلم الأمريكي،مقارنة بالفيلم البولندي، على سبيل المثال.
أفلام رومانيا التي حكمتها قبضة "تشاوشيسكو" الحديدية ليست استثناءً. رأيت مؤخراً فيلمين للمخرج الروماني الشاب "كريستيان مونجيو" (مواليد 1968): "أربعة أشهر، ثلاثة أسابيع ويومان"(2007)، و "ماوراء التلال"(2012).له فيلم سابق عنوانه "بلاد الغرب"، وأفلام قصيرة أخرى لم أرها. وسأقتصر في الحديث على فيلمه الأخير.
الفيلم يدور في معظمه في دير أرثودوكسي معزول على المرتفعات، يقيمُ فيه راهب رجل وراهبات، في مولدافيا عام 2005. فويتشينا وآلينا تربيتا سوية في دار للأيتام، وعلى علاقة عاطفية متينة. وبفعل أذى الحياة تلوذ الأولى لهذا الدير ساعية لحب الله، في حين تهاجر الثانية للعمل، ولكنها تعود بفعل حبها لفويتشينا. حبان غير متناغمين: حبٌّ دينيّ آمن وآخر دنيويّ بالغ الاضطراب. تتوسل فويتشينا براعي ديرها أن يستضيف آمينا لفترة، ولكن الاضطراب يقود الأخيرة إلى انهيارات عصبية لا شفاء منها. تحاول المستشفى العلاج، ولكنه علاج لا مبالٍ. ويحاول الدير ولكن علاجه مميتٌ.فرجل الدين ونساؤه يرون في آلينا كياناً غير مؤمن، وينتسب إلى رداءة الحياة الأرضية البعيدة. وبفعل الرحمة في قلوبهم يسعون إلى معالجة امرأة يرون أن الشيطان قد تلبسها. وسعيهم كان صادقاً بالتأكيد. في واحدة من انهيارات آلينا الهستيرية تُربط إلى لوح، ثم ينصرف الراهب إلى معالجتها بالصلوات والتعاويذ.
وتُترك بعد هدأتها مكبلة في غرفة معزولة.وبفعل البرد، والتعب، والجوع، وانكسار القلب، تغادر الحياة، وهي تنظر إلى صديقتها هادئة مبتسمة.  
إذا كان هذا الاعتماد الكلي في حكاية الفيلم على الحب الإلهي عند فويتشينا أو الحب الانساني عند آلينا يشكل المحور الأول في الفيلم، فالمحور الثاني كامن في اللامبالاة المريعة التي تتسم بها الحياة والناس. المخرج يعرض، بموقف حيادي، واقعين في حالة تصادم. فالراهب والراهبات، الذين كانوا سبباً في موت الشابة المسكينة، هم كيانات خيرة. وسعيهم لإنقاذ الانسان من براثن الشيطان صادق. وبالمقابل يبدو تعامل الدكتورة التي تستقبل آلينا الميتة باعتبارها مجرد جثة من الجثث المتتالية، وكذلك الشرطة التي تتحرك دون مشاعر، ليس وليد خبث بشري بل وليد لا مبالاة.
    المخرج يظهر بقصدية مدى جمال وبساطة الدير، اللذين تضفيهما العزلةُ والابتعاد عن درَن المدن وحياتها. وانتماء آلينا إليه ساعية إلى الأمان يبدو منطقياً. ولكن غير المنطقي كامن في جوهر كل هذا. نتبينه في حرمان فويتشينا من الحب، ومن الحياة أيضاً. الفيلم يعرض لنا لا مبالاة سلطة العالم، وسلطة الطبيعة معاً.
    آخر مشهد في الفيلم يتم داخل سيارة الشرطة، حيث يُقاد الراهب والراهبات. السيارة تتوقف عند الضوء الأحمر، الراهب يطمئن الراهبات، فلا خوف مادام الله معنا. الشرطي المرافق يسلي صاحبه بقصة جريمة قتل مريعة. في الخارج يتواصل المطر، وعامل مع مثقاب حجري يصدر ضجيجاً في الشارع. شاحنة ضخمة تمر وترشق الزجاجة الأمامية لسيارة الشرطة، والتي تملأ الشاشة، بحفنة وحل سوداء قذرة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

تقارب طهران وواشنطن بوابة لحل أزمات العراق الاقتصادية

النساء يتحدن ضد تعديل الأحوال الشخصية والقضاء يتفاعل والمحكمة تحسم في أيار

عطلة رسمية للمسيحيين في 20 و21 نيسان

الأونروا: مخازننا فارغة والمجاعة تفتك بسكان غزة

كردستان تعطل الدوام غداً احتفالاً برأس السنة الإيزيدية

ملحق معرض اربيل للكتاب

الأكثر قراءة

قناطر: العالم يتوحش .. المخالبُ في لحمنا

العمود الثامن: قوات سحل الشعب

"الحشد الشعبي"... شرعنة التشكيل بوظائف جديدة

كلاكيت: "ندم" وعودة الفيلم الجماهيري

الحاكم بمنظور إمام سلطة الحق

العمود الثامن: المتشائل

 علي حسين أعترف أنّ الكتابة اليومية تتطلب من صاحبها جهداً كبيراً، فصاحب النافذة اليومية مطلوب منه أن يُقدِّم شيئاً يتجاوز ما اطلعت عليه الناس في الأخبار، وشاهدته من خلال الفضائيات، فالعبور إلى جسر...
علي حسين

(50) عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية حياةً بين قذيفتين

زهير الجزائري 2 بين القتال والهدنةً القصيرة تغيرت الحياة الاجتماعية. لقد قضى الناس أياماً طوالًا في الملاجئ. نساء ورجال حشروا في مكان ضيق. شبان لم يعرفوا السياسة و ما أرادوا أن يعرفوها انفصلوا عن...
زهير الجزائري

اشكالية السياسة والتعصب تحليل سيكولوجي

د. قاسم حسين صالح المفهوم الشائع عند العراقيين بمن فيهم الكثير من المثقفين ، ان المتدينين يكونون متعصبين والمثقفين متحررين وغير متعصبين ، فهل هذا صحيح ام فيه رأي آخر ؟ لنبدأ بتحديد المفهوم...
د.قاسم حسين صالح

باليت المدى: كرسي مكسور الساق

 ستار كاووش عندَ لقائي ببعض الناس أفاجئ ببعض التفاصيل الصغيرة التي تُشير الى نوع من الكسل واللامبالاة وعدم إيجاد الحلول حتى وأن كانت صغيرة. فرغم إنغماس أحدهم بتعديلِ صُوَرِهِ ببرامج الفوتو شوب كي...
ستار كاووش
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram