TOP

جريدة المدى > عام > عن العراقيات الضائعة

عن العراقيات الضائعة

نشر في: 21 إبريل, 2013: 09:01 م

استكمالاً لحديثنا عن المحلية في الشعر , أقول: ما اتعب النقد الأدبي وأضاع الكثير من جهد ممارسيه , كشفاً وتعليلاً , هو الإعجاب المفرط بالمقولات. أعني تلك التي تمّ تبنيها , ومن بعد العمل بها بوصفها معايير ثابتة . فيكون طبيعياً ان نرث الأخطاء حين التطبيق

استكمالاً لحديثنا عن المحلية في الشعر , أقول: ما اتعب النقد الأدبي وأضاع الكثير من جهد ممارسيه , كشفاً وتعليلاً , هو الإعجاب المفرط بالمقولات. أعني تلك التي تمّ تبنيها , ومن بعد العمل بها بوصفها معايير ثابتة . فيكون طبيعياً ان نرث الأخطاء حين التطبيق وان نورث أخطاءً .

من هذه , مسألة المحاكاة . فمنذ قال بها أرسطو اتضح ان المحاكاة تتجاوز الشعر صامتاً الى الموسيقى والحركة – تمثيلاً ورقصاً . إن أحداً لا يستطيع نكران حقيقة ان الإنسان يكشف عن مشاعره في المحاكاة , وفي كل الفنون. لكن المحاكاة ليست فعلاً جامداً . المحاكاة بتطوراتها العديدة عبر الأزمنة , أثارت أفكاراً وصُوّبت آراءً خطأ عنها . فالوصف الخارجي في الكتابة هو المحاكاة . لكن الوصف الداخلي هو محاكاة أيضاً . وهذا ما لم يُنْتَبَهْ إليه وما أربك الأحكام.

المسألة تتركز في ان كشف الداخل  وتصويره والتعبير عن اللا مرئي من مشاعر وهواجس وعالم روحي ... , هذه كلها أُخرجت من المحاكاة وصرنا نحتج بها على تخلف المحاكاة . لكن التعبير عن الداخل , هو وصف له , وهو محاكاة وإن من نمط آخر . هذه محاكاة للداخل كما يظن أو يُحَسُّ به . وكلما كان العمل "الوصفي" دقيقاً , مقارباً لحقيقة النفس والناس , كان العمل أكثر نجاحاً وأرقى .

نحن في دراستنا الحديثة أصدرنا حكماً خطأً على المحاكاة الارسطوية وفصلنا المكتوب او المؤدَى من كشف اللا مرئي والحديث عن الذات فوضعنا المحاكاة كلها ضمن قديم الأدب . وقوع الحداثة الأدبية في هذا الخطأ سبّب لنا كل هذه المفهومات الخطأ والشائعة في أوساطنا الأدبية والفنية .

كان ممكناً أن تتضح سمات الحداثة بعلمية أكثر , بتطوير مفهوم المحاكاة لا بنكران صوابها.

ومن هنا أردت الإشارة الى كشف المزايا الخاصة , المذاقات , الهواجس "ردود الأفعال والروح الخاصة في النُتاج الفني المحلي: شعراً , رسماً , غناءً وموسيقى , اهتماماً بالمحاكَى الشخصي المحلي والقومي (الوطني) .

نعم , قد نجد بساطةً أو محدودية أفق لكن هذه لا تنفي جوهر الموضوع . هذا يُشار له في التقويم والحكم . الإشارة هنا تكون لمستوى التطور أو مستوى النضج .

أشرت مرة الى ما تميزت به كتابات نخبة من أدبائنا في البصرة , في العمارة والناصرية والموصل . هناك أجد بين حين وآخر ما أبحث عنه من محلية أريدها . هذه الميزات ظهرت , أول ما ظهرت , في الأغاني , في الألحان وفي الشعر الذي يُغَنّى .

ذكرّني بها اليوم , وأخذ بيدي للكتابة عنها , ما قرأته من الإصدار الأول لشاعرنا البصري "علي أبو عراق" . وهو كتابات نثرية , ثم في ديوانه "ما يقترحه الغياب" ويعده في ديوانه الجديد , مفرط الأناقة , "من ؟" . هو اشتغل في "عراقيات" على أمثلة وتعابير شعبية . لقد لامس الروح الشعبي المحلي بانتقاء أمثلة حية تعيش بين الناس في الشارع والحافلة والبيوت والمناسبات . هذا ليس مما يُسْتهان به موضوعاً- فهو أصلاً حقل دراسة اجتماعية وانثروبولوجية- ما يمكن ان يُستهان به هو أفق التناول ومدى ما يكشف من مكنونات إنسانية. وهذه هي مهمة الأدب الأساسية ومنها , من بعد , نستخلص الرؤيا التي قد تورث رمزاً دالاً او تشير الى مُدّخر دلالات . هذا ما لا أريد القطع به الآن . لا أرى الوقت مناسباً . مهمتي الآن أن أشيد بالتوجّه الذي يمكن جداً ان يكون مفيداً للكتابة الأدبية لتمتلك "ذاتاً" خاصة او حميمية خاصة مع البيئة ومضمونها .

في حديث أبي عراق عن "الدريول" لم يكن الحديث عن سائق حافلة محلي وطرافته حسب , لكن عن روح المحلي في إعادة رسم الاسم الأجنبي ولَيّهِ ليتضمن روحاً شعبية عراقية . قل مثل هذا عن عيد الفقراء والروح العذب الجميل بالرغم من المرارة الراكدة المؤسفة لـ"بْهَيَّه" الشعبية والتي اختلف مضمونها الإنساني بسبب عمق الوجع عن "بَهِيَّه" الفصحى . الفتحة في الأولى على الهاء , ألقت عبئاً , بينما الكسرة تحت الهاء أعطت رقةً وإعجاباً .. كما إننا ننتبه الى المكابرة المظهرية في جوّه البصري: "لا يفرك شراعه تراهو سماّدي" .. التي تذكّرني بما كان يقوله العائدون الى طبرق الليبية وأضوائها الجميلة من البحر . حيث يقول من يعرف المدينة وحالها:"أعليَّ يا طبرق؟" . وفي "هدّي كمرنا" صراخ ثوري ونفاد صبر . ما أعظم العبارة حتى تكون: أطلقي سراحَ قمرِنا !" فكما أعطت العامية حميمية ومحلية , أعطت الفصحى افقاً وجمالية .

هذا الكلام الأخير هو ما تمنيته على مبدعنا . اعني كشف الدلالة المحلية بأفق العصر الثقافي. والاّ يظل الشارع كما هو!

ان الحساسية العالية وروح السخرية والأحزان ضاربة الجذور , يمكن لهذه كلها ان تمد الحداثوية الأدبية بمذاق محلي وبذاك النوع من الخصوبة , التي قد نجد أعلى او أدنى منها  فيما نقرأ من كتابات أجنبية , لكننا أبداً لن نجدها مكتملة وباذخة الثراء إلا في بيئتها . وهذا ما أردت ان احيي أبا عراق وزملاءه عليه وادعوهم للاهتمام به.

بقي ان أقول لأصدقائي: ان المحلية التي يمتصها النص او يستمد منها نسغه الحار وخصبه , هي التي تمنحكم تميزاً , وليس تقليدكم لكتابات سواكم . في التقليد لن تكون مجدداً . القراءات تنفعكم وتنفعنا سماداً .في التقليد تكون كتاباتك إعادة تصنيع ! قلّدْ عشرات الشعراء الغربيين لن تحظى في كتابتك الا بخبز بارد . أما الرغيف الساخن فهو من تنورك العراقي , لا من سواه ! السوى يمكن ان يدلك على موضوعات للكتابة , يمكن ان يستفزك , يمكن ان يعلمك سعة أفق وسعة بصيرة , لكي تكتب أنت ما تراه وتحس به وتعاني منه وتبتهج به أنت !

نحن عموماً تتقاسمنا القراءات والتجارب لكن شرط الكاتب المجيد ان يمتلك دائماً الانتباه الى نفسه والى ان جذر حقيقته الإنسانية في بيئته حتى إذا ارتقى الى العصر . سأقدم لكم أمثلة حيّة , لتحكموا انتم أنفسكم على ما قلت: أيهما الجديد والعذب والمثير: "سقط في جُبّ الدهشة (هنا أثر القراءات..) و "العماريون يلبط في وجوههم السمك"؟ (هنا حميمية محلية وتماس واقعي) . القولان لشاعر واحد , هو الأستاذ علي أبو عراق . في الأولى كان مقلّداً محكوماً بقراءاته , وفي الثانية كان شاعراً عراقياً بكل عراقيته !

وهذا مثال آخر من قصيدة لشاعرنا بعنوان "شاهده" واضح فيها فعل القراءة: "كان ينسج أشلاء العالم المتناثرة بأوكسجين روحه وبمطرقته يطوّع البراكين ..." واقرأ مقابل ذلك:"استفاق الشِفَلّح.." و "تسرّح أشواقَها للجنوب.." .

الكتابات الحية لا يكتبها إنسان معزول يعيش على القراءات . سيعيد كتابة قراءاته مشوهة أو ممسوخة , أو بلا أصالة . لا كتابة جيدة بلا تجارب وبلا مفردات يومية ولا معرفة بحيوية الناس في الحياة . واعتقد , لولا شخصية ابي عراق الشعبية ومعايشته اليومية للحياة والناس ومفردات العمل , لما اغتنى بروح المحلي أولاً ولما استطاع ان يستوعب المفردات العراقية بنسغها الساخن ليقدم من بعد فناً أدبياً . لهذا الرجل إمكانات تؤهله لأن يكون شاعراً شعبياً , بمعنى الشعبية الحديثة، شاعراً شعبياً كما هو مفهوم في العالم ,أي يستشف روح الشعب والبيئة المحلية لا الذي يكتب شعراً بالعامية , كما هو شائع بيننا . أمامك , يا صديقي , وأمام أصدقاء يماثلونك أفق واسعٌ, إذا أردت وأرادوا استثماره . وهذا يستوجب تهيئة النفس له ثقافياً ومدى فكرياً .

ختاماً أتساءل: ما جدوى كتابات نقلد فيها الكتاب الآخرين , أجواء وصيغ تعابير وموضوعات ؟ . هكذا شاعر أو كاتب مهما كانت كتاباته جيدة , هي ليست جديدة ! وهكذا شاعر يظل شاعراً ثانوياً Minor , لأن أمثاله ممن يشاركونه تلك القراءات والتقليد أو إعادة الكتابة , كثيرون ويزدادون كل يوم .

ما جدوى ان يكتب الإنسان مثل غيره ؟ اكتب مختلفاً عن غيرك ! هذا ما أقوله للجميع وأقوله لنفسي . وأنت يا صديقنا , أبا عراق , وضعت يدك على القبضة الفضية للخزانة , بقي عليك الانتقاء وفن عرض مدخّراتها .. وذلك عمل أنت جدير به !

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مدخل لدراسة الوعي

شخصيات أغنت عصرنا .. المعمار الدنماركي أوتسن

د. صبيح كلش: لوحاتي تجسّد آلام الإنسان العراقي وتستحضر قضاياه

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

مقالات ذات صلة

في مديح الكُتب المملة
عام

في مديح الكُتب المملة

كه يلان محمدرحلة القراءة محفوفة بالعناويــــن المـــــــؤجلة مواجهتُها، ولايجدي نفعاً التسرعُ في فك مغاليقها.لأنَّ ذلك يتطلبُ مراناً، ونفساً طويلاً وتطبيعاً مع المواضيع التي تدرسها تلك الكُتــــب.لاشــكَّ إنَّ تذوق المعرفة يرافقه التشويق باستمرار،لكن الـــدروب إلى...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram