استكمالاً لحديثنا عن المحلية في الشعر , أقول: ما اتعب النقد الأدبي وأضاع الكثير من جهد ممارسيه , كشفاً وتعليلاً , هو الإعجاب المفرط بالمقولات. أعني تلك التي تمّ تبنيها , ومن بعد العمل بها بوصفها معايير ثابتة . فيكون طبيعياً ان نرث الأخطاء حين التطبيق
استكمالاً لحديثنا عن المحلية في الشعر , أقول: ما اتعب النقد الأدبي وأضاع الكثير من جهد ممارسيه , كشفاً وتعليلاً , هو الإعجاب المفرط بالمقولات. أعني تلك التي تمّ تبنيها , ومن بعد العمل بها بوصفها معايير ثابتة . فيكون طبيعياً ان نرث الأخطاء حين التطبيق وان نورث أخطاءً .
من هذه , مسألة المحاكاة . فمنذ قال بها أرسطو اتضح ان المحاكاة تتجاوز الشعر صامتاً الى الموسيقى والحركة – تمثيلاً ورقصاً . إن أحداً لا يستطيع نكران حقيقة ان الإنسان يكشف عن مشاعره في المحاكاة , وفي كل الفنون. لكن المحاكاة ليست فعلاً جامداً . المحاكاة بتطوراتها العديدة عبر الأزمنة , أثارت أفكاراً وصُوّبت آراءً خطأ عنها . فالوصف الخارجي في الكتابة هو المحاكاة . لكن الوصف الداخلي هو محاكاة أيضاً . وهذا ما لم يُنْتَبَهْ إليه وما أربك الأحكام.
المسألة تتركز في ان كشف الداخل وتصويره والتعبير عن اللا مرئي من مشاعر وهواجس وعالم روحي ... , هذه كلها أُخرجت من المحاكاة وصرنا نحتج بها على تخلف المحاكاة . لكن التعبير عن الداخل , هو وصف له , وهو محاكاة وإن من نمط آخر . هذه محاكاة للداخل كما يظن أو يُحَسُّ به . وكلما كان العمل "الوصفي" دقيقاً , مقارباً لحقيقة النفس والناس , كان العمل أكثر نجاحاً وأرقى .
نحن في دراستنا الحديثة أصدرنا حكماً خطأً على المحاكاة الارسطوية وفصلنا المكتوب او المؤدَى من كشف اللا مرئي والحديث عن الذات فوضعنا المحاكاة كلها ضمن قديم الأدب . وقوع الحداثة الأدبية في هذا الخطأ سبّب لنا كل هذه المفهومات الخطأ والشائعة في أوساطنا الأدبية والفنية .
كان ممكناً أن تتضح سمات الحداثة بعلمية أكثر , بتطوير مفهوم المحاكاة لا بنكران صوابها.
ومن هنا أردت الإشارة الى كشف المزايا الخاصة , المذاقات , الهواجس "ردود الأفعال والروح الخاصة في النُتاج الفني المحلي: شعراً , رسماً , غناءً وموسيقى , اهتماماً بالمحاكَى الشخصي المحلي والقومي (الوطني) .
نعم , قد نجد بساطةً أو محدودية أفق لكن هذه لا تنفي جوهر الموضوع . هذا يُشار له في التقويم والحكم . الإشارة هنا تكون لمستوى التطور أو مستوى النضج .
أشرت مرة الى ما تميزت به كتابات نخبة من أدبائنا في البصرة , في العمارة والناصرية والموصل . هناك أجد بين حين وآخر ما أبحث عنه من محلية أريدها . هذه الميزات ظهرت , أول ما ظهرت , في الأغاني , في الألحان وفي الشعر الذي يُغَنّى .
ذكرّني بها اليوم , وأخذ بيدي للكتابة عنها , ما قرأته من الإصدار الأول لشاعرنا البصري "علي أبو عراق" . وهو كتابات نثرية , ثم في ديوانه "ما يقترحه الغياب" ويعده في ديوانه الجديد , مفرط الأناقة , "من ؟" . هو اشتغل في "عراقيات" على أمثلة وتعابير شعبية . لقد لامس الروح الشعبي المحلي بانتقاء أمثلة حية تعيش بين الناس في الشارع والحافلة والبيوت والمناسبات . هذا ليس مما يُسْتهان به موضوعاً- فهو أصلاً حقل دراسة اجتماعية وانثروبولوجية- ما يمكن ان يُستهان به هو أفق التناول ومدى ما يكشف من مكنونات إنسانية. وهذه هي مهمة الأدب الأساسية ومنها , من بعد , نستخلص الرؤيا التي قد تورث رمزاً دالاً او تشير الى مُدّخر دلالات . هذا ما لا أريد القطع به الآن . لا أرى الوقت مناسباً . مهمتي الآن أن أشيد بالتوجّه الذي يمكن جداً ان يكون مفيداً للكتابة الأدبية لتمتلك "ذاتاً" خاصة او حميمية خاصة مع البيئة ومضمونها .
في حديث أبي عراق عن "الدريول" لم يكن الحديث عن سائق حافلة محلي وطرافته حسب , لكن عن روح المحلي في إعادة رسم الاسم الأجنبي ولَيّهِ ليتضمن روحاً شعبية عراقية . قل مثل هذا عن عيد الفقراء والروح العذب الجميل بالرغم من المرارة الراكدة المؤسفة لـ"بْهَيَّه" الشعبية والتي اختلف مضمونها الإنساني بسبب عمق الوجع عن "بَهِيَّه" الفصحى . الفتحة في الأولى على الهاء , ألقت عبئاً , بينما الكسرة تحت الهاء أعطت رقةً وإعجاباً .. كما إننا ننتبه الى المكابرة المظهرية في جوّه البصري: "لا يفرك شراعه تراهو سماّدي" .. التي تذكّرني بما كان يقوله العائدون الى طبرق الليبية وأضوائها الجميلة من البحر . حيث يقول من يعرف المدينة وحالها:"أعليَّ يا طبرق؟" . وفي "هدّي كمرنا" صراخ ثوري ونفاد صبر . ما أعظم العبارة حتى تكون: أطلقي سراحَ قمرِنا !" فكما أعطت العامية حميمية ومحلية , أعطت الفصحى افقاً وجمالية .
هذا الكلام الأخير هو ما تمنيته على مبدعنا . اعني كشف الدلالة المحلية بأفق العصر الثقافي. والاّ يظل الشارع كما هو!
ان الحساسية العالية وروح السخرية والأحزان ضاربة الجذور , يمكن لهذه كلها ان تمد الحداثوية الأدبية بمذاق محلي وبذاك النوع من الخصوبة , التي قد نجد أعلى او أدنى منها فيما نقرأ من كتابات أجنبية , لكننا أبداً لن نجدها مكتملة وباذخة الثراء إلا في بيئتها . وهذا ما أردت ان احيي أبا عراق وزملاءه عليه وادعوهم للاهتمام به.
بقي ان أقول لأصدقائي: ان المحلية التي يمتصها النص او يستمد منها نسغه الحار وخصبه , هي التي تمنحكم تميزاً , وليس تقليدكم لكتابات سواكم . في التقليد لن تكون مجدداً . القراءات تنفعكم وتنفعنا سماداً .في التقليد تكون كتاباتك إعادة تصنيع ! قلّدْ عشرات الشعراء الغربيين لن تحظى في كتابتك الا بخبز بارد . أما الرغيف الساخن فهو من تنورك العراقي , لا من سواه ! السوى يمكن ان يدلك على موضوعات للكتابة , يمكن ان يستفزك , يمكن ان يعلمك سعة أفق وسعة بصيرة , لكي تكتب أنت ما تراه وتحس به وتعاني منه وتبتهج به أنت !
نحن عموماً تتقاسمنا القراءات والتجارب لكن شرط الكاتب المجيد ان يمتلك دائماً الانتباه الى نفسه والى ان جذر حقيقته الإنسانية في بيئته حتى إذا ارتقى الى العصر . سأقدم لكم أمثلة حيّة , لتحكموا انتم أنفسكم على ما قلت: أيهما الجديد والعذب والمثير: "سقط في جُبّ الدهشة (هنا أثر القراءات..) و "العماريون يلبط في وجوههم السمك"؟ (هنا حميمية محلية وتماس واقعي) . القولان لشاعر واحد , هو الأستاذ علي أبو عراق . في الأولى كان مقلّداً محكوماً بقراءاته , وفي الثانية كان شاعراً عراقياً بكل عراقيته !
وهذا مثال آخر من قصيدة لشاعرنا بعنوان "شاهده" واضح فيها فعل القراءة: "كان ينسج أشلاء العالم المتناثرة بأوكسجين روحه وبمطرقته يطوّع البراكين ..." واقرأ مقابل ذلك:"استفاق الشِفَلّح.." و "تسرّح أشواقَها للجنوب.." .
الكتابات الحية لا يكتبها إنسان معزول يعيش على القراءات . سيعيد كتابة قراءاته مشوهة أو ممسوخة , أو بلا أصالة . لا كتابة جيدة بلا تجارب وبلا مفردات يومية ولا معرفة بحيوية الناس في الحياة . واعتقد , لولا شخصية ابي عراق الشعبية ومعايشته اليومية للحياة والناس ومفردات العمل , لما اغتنى بروح المحلي أولاً ولما استطاع ان يستوعب المفردات العراقية بنسغها الساخن ليقدم من بعد فناً أدبياً . لهذا الرجل إمكانات تؤهله لأن يكون شاعراً شعبياً , بمعنى الشعبية الحديثة، شاعراً شعبياً كما هو مفهوم في العالم ,أي يستشف روح الشعب والبيئة المحلية لا الذي يكتب شعراً بالعامية , كما هو شائع بيننا . أمامك , يا صديقي , وأمام أصدقاء يماثلونك أفق واسعٌ, إذا أردت وأرادوا استثماره . وهذا يستوجب تهيئة النفس له ثقافياً ومدى فكرياً .
ختاماً أتساءل: ما جدوى كتابات نقلد فيها الكتاب الآخرين , أجواء وصيغ تعابير وموضوعات ؟ . هكذا شاعر أو كاتب مهما كانت كتاباته جيدة , هي ليست جديدة ! وهكذا شاعر يظل شاعراً ثانوياً Minor , لأن أمثاله ممن يشاركونه تلك القراءات والتقليد أو إعادة الكتابة , كثيرون ويزدادون كل يوم .
ما جدوى ان يكتب الإنسان مثل غيره ؟ اكتب مختلفاً عن غيرك ! هذا ما أقوله للجميع وأقوله لنفسي . وأنت يا صديقنا , أبا عراق , وضعت يدك على القبضة الفضية للخزانة , بقي عليك الانتقاء وفن عرض مدخّراتها .. وذلك عمل أنت جدير به !