إنه مقال عن زيارتي الأولى للأنبار بعد شرارة الاعتصامات التي انطلقت في ٢١ كانون الأول الماضي. وبعد غروب يوم الجمعة بقليل كنت مع الصديق حليم السامرائي نتحدث عن شؤون عالم النشر والطباعة وشجونه، وهو يقود سيارته بملل وسط زحام هائل في شوارع المنصور ببغداد. لقد بدأ التشديد الأمني قبل الانتخابات بساعات ووقوفنا بلا حراك في طابور اللارحمة واللاجدوى عند نقطة التفتيش، استغرق نحو ساعة. المرء يشعر بإذلال رغم كل مبررات الأمن. تحدثنا بمرارة أنا وحليم، لأن كلينا لم يجد اسمه ولا رقم التموينية في المركز الانتخابي، ولم يفلح في مساعدتنا حتى عضو بارز في مجلس الموظفين راح يدقق القوائم على الطرف الآخر من التلفون. شعور بالغبن والإذلال جعلني ألمح شارعا واحدا سالكا في التقاطع المغلق. إلى أين يؤدي بنا هذا الشارع يا صديقي؟ يجيب،إنه طريق أبو غريب، نحو الأردن وسوريا. أقول بجنون يعرفه عني الأصدقاء خلال صنع قرارات السفرات المجنونة: هل لديك وقود كاف لإيصالنا إلى الرمادي؟ لم يكن الصديق يحتاج سوى استعراض جنون مماثل لكي يوافق على الفكرة، وقد حاولت أنا وهو طوال شهور أن نستكشف الوضع في الأنبار "على الطبيعة" وخذلتنا المشاغل والصحة وتسارع الأحداث، فانطلقنا نحو الأنبار ووصلناها قرابة العاشرة ليلا، وكان أصدقاء من أحلى عوائلها في الانتظار.
لقد عدت لتوّي من هناك، وسأحاول غدا بعد التخلص من عناء السفر، كتابة تفصيل عن أشياء في الرمادي تقر العين وتجعلنا نشعر بأن الفرصة كبيرة لبناء سلم أهلي رصين، شرط أن ينشط العقلاء ويكفوا عن الصمت. تضمنت الجولة حوارا مثيرا مع وزير المال المستقيل رافع العيساوي، ولقاءً بشيوخ دين وقبائل، بعضهم يؤيد تصالحا مع المالكي، وبعضهم يرفض لأنه لا يثق برئيس الحكومة ويطلب بديلا شيعيا معتدلا.
وسأكتفي اليوم بإعطائكم صورة عن معرض فوتوغرافي بسيط وعميق أخذني إليه شباب الاعتصامات في ساحتهم، وسأقترح عليهم أن يبعثوا نسخة منه كرسالة إلى ١٧ محافظة عراقية. ذلك أنه حظي بانتقاء خبير وبليغ لمقولات الاحتجاج والنقد والنضال المدني الذي نحتاج إليه. وليت المتحدثين على منصة الاعتصام، رددوا تلك الاقتباسات الفخمة كل يوم أمام عدسات الكاميرا بدل كل الغضب والانفعال الذي يساء فهمه في أحوال كثيرة.
فداخل خيمة بين نحو ١٠٠ خيمة، تطالعك صورة لفيكتور هيغو الروائي الكبير، مع كلمة مختصرة: تبدأ الحرية حيث ينتهي الجهل. وإلى جانب هيغو، اقتباس طويل من عبد الرحمن الكواكبي قرأته عدة مرات وودت توزيعه على كل أهل العراق كنصيحة من مستنير سوري حاول إطلاق النهضة في القرن التاسع عشر: "إن الاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان، فيسوق الناس إلى اعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك حقه مطيع، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح، الاستبداد يعتبر النفاق سياسة، والتحايل كياسة".
في ركن آخر من المعرض اقتباس لمبدع ابل ماكنتوش والايفون الأمريكي الراحل ستيف جوبز (من أصول سورية أيضا). ومن الواضح أن شابا مليئا بحماس التغيير ومدمنا مثلي على منتجات شركة ابل، قد وضعه في خيمة المعتصمين هذه. ينقل عن جوبز: نحن هنا لكي نضع بصمتنا على هذا الكون، وإلا فما فائدة مجيئنا إليه؟
وإلى جوار ستيف صورة للمالكي تظهره عصبيا، وقد كتب أحدهم فوقها بالقلم الماجك: أنت الفقاعة، لا الشعب. إنها عبارة تحاول الثأر لكرامة المحتجين بعد أن قال المالكي في خطأ رهيب:إن التظاهرات مجرد فقاعة. وبدا أنه هازئ بالجد، مثل حسني مبارك وبن علي.
وضع الشباب أيضا صورا عن معاناة الجنوب العراقي، أحداها تظهر مشروعا حكوميا مع تعليق توضيحي: نصب للشهداء في الجبايش مزود بمهبط لمروحيات المسؤولين، بينما تمتلئ المدينة بمدارس طينية.
هناك صور كثيرة أخرى لعجائز جنوبيات واقفات في شوارع ومنازل غارقة بأمطار الشتاء الأخير وفشل حكومة التريليونات.
إنني أختم المقال باقتباس آخر للكواكبي قرأته عدة مرات عن كتاب طبائع الاستبداد الشهير (الذي وزعته المدى في العراق بعد سقوط صدام حسين): إن المستبد في مراحله الأخيرة، يضرب ضرب عشواء، كثور هائج، أو مثل فيل ثائر في مصنع فخار، يحطم أهله وبلده قبل أن يستسلم للزوال.
يا شباب الاعتصام، أرجوكم. ابعثوا نسخة من معرضكم هذا إلى كل مدن العراق، فهو أبلغ ما قاله كل المحتجين. غداً نكمل حكاية التطرف والاعتدال، وأخطاء كل الطوائف، وتربة السجود الشيعية المركونة باحترام في مضائف ما تبقى من فرسان البادية الحنفية والحنابلة.
هيغو والكواكبي يعتصمان في الأنبار!
نشر في: 21 إبريل, 2013: 08:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
ملحق ذاكرة عراقية
الأكثر قراءة
الرأي
جميع التعليقات 16
أحمد هاشم الحسيني
لن تستطيع تبييض صفحة الإرهاب وتسويقه مهما حاولت ولسنا في وقت تصير فيها الجريدة مصدر المعلومة الوحيدة فالفضائيات تملأ السماء وقنواتها تغمر البيوت والناس تشاهد وترى ما تنقله الفضائيات التي تدافع عن تحرك السنة وهذا هو التوصيف الصحيح وما يريدون وما يسعون إليه
المدقق
واخيرا عدت ايها العنجوكي الى كتاباتك المملة والمليئة حقدا ومرضا على تاج الراس ابو اسراء .. فقبل فترة وجيزة القمكم البطل المالكي حجرا كبيرا في افواهكم عندما مزق ما كانت تعرف بالقائمة العراقية بحيث اصبحتم انتم واسيادكم لا تعرفون ماذا تفعلون او ماذا تكتبون ب
صفاء
سرمد الطائي ليس عليك بالغريب ان تمتدح من هم اعداء المالكي ليس الا ولكن ولا يهمك سوف تستمر الى ان ارى يوم سوف تعتذر عن كل ماكتبت من اكاذيب ومقالات صفراء وبعده سوف اذكرك
صفاء
اعلم ياهذ ان نسيت عندما اهلك عندما انتفضوا وكما تدعي باستمرار كانوا هؤلاء (اهل الرمادي ومن لف لفهم) يتفننون بقمعك كم رخيص انت ياسرمد
صفاء
هل كنت ياسرمد ان تذهب يومين وتتجول في ساحات العز والكرامه في 2006 كم انت منافق واعمى الضمير ياسرمد
صفاء
كذالك احذرك من ان تصل بك القباحه كما قررت ان تشبه ساحات الغدر والخيانه في الرمادي بساحه الطف فاعلم ان الحسين ليس تراث او حدث تتناوله اقلام ماجوره
علي بكزاد
مقال اكثر من رائع استاذ سرمد وحمد الله على السلامة وسلامي الى الصديق والاخ حليم السامرائي ولا تهتم وتتضايق بما يكتبه تجار الدم وذيول المالكي ... اتبع المثل القائل ( لا يهمني من يتكلم وراء ظهري ... يكفيني انه يخرس عندما يراني ) وبما انه الناس معادن فلابد ا
بدون اسم
كم انت مبدع ورائع ياسرمد الطائي ارجوك لا تلتفت لمن ( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) شكرا لك
كاطع جواد
هذه الهمة التي قمت بها كاعلامي يحب بلده وشعبه دون النظر لمذهب او عرق او لون لا تروق للمتعصبين وأصحاب النظرات الضيقة .. انت تسعى لإظهار ان العراق واحد لا فرق بين ابن الرمادي وابن البصرة من خلال كشف نوايا المتظاهرين الحقيقية ونقل صورة حية لتمسك المتظاهرين
احمد الشمري
لا تمكن حتى الله من تبييض صفحة من يقود المظاهرات امام الشعب العراقي ؟ لاننا شاهدنا ولا زلنا نشاهد خطابات من يقود هذه المظاهرات وكشفوا انفهسم لجميع ابناء الشعب العراقي . فلا تتعب نسفك لان كلامك لا تصدقه حى انت لو كنت محايدا . لكن بنظرنا الان مسير وليس مخير
د. مصطفى ألعيسى باريس
نقد غير علمي ولا حضاري لكاتب ألمقال...
ناصر صحن
سرمد الرائع محاولاتكم المستمرة باالوصول بالعراق الى بر الامان من خلال تسليط الضوء على كل ماهو ايجابي و مقرب لوجهات النظر سيزعج بالتاكيد المتنفعين من الطائفية و صانعي الاصنام الذين لايستطعون العيش احرار بدون صدام او مالكي. تعلم كمثقف ويعلم الجكميع ان هناك
احمد عبد الوهاب
بسم الله الرحمن الرحيم اني اتعجب من المعلقين قبلي ان كنتم تختلفون مع كاتب المقال فردوا عليه ردا علميا بدلا من الوعيد والتخوين....سلمت استاذ سامر من كل متعصب لايؤمن بالنقاش الهاديء الملتزم حياك الله تعالى والسلام
كربلاانباري
ان لم تكن مع الحق .. فلا تصفق للباطل .. العراقي يفخر حينما يجد اناسا كسرمد الطائي .. نظيف العقل .. صافي الضمير .. الحمد للله الدنيا بخير ..
ali
قد يؤيدك الكثير بفشل الحكومة ...وغشل الادارة الامنية..ولكن تتغاهم مع حارث الضاري او تتنازل للسعودية..ما تريد بوضوح
عادل الجمال
ما قرات مقال لك ياسيدي ألآ وشعرت بان الاحاسيس والافكارتتوهج منه.انها الموهبةالفذة ممتزجةبالصدق والكرامة البشرية النبيلة .فلمايتذمر البعض من موهبة مدهشةوقامة عاليةترفض الانحناءلظل ديكتاتور ينوي أفتراس الوطن...لقد اتاحت دولةالسلطان للرداحين والمتملقين وانص