د.خالد السلطانيمعمار واكاديميبتعبير آخر، لا انظر الى الناتج المعماري بصفته وليد اشتراطات نواحٍ تركيبية او وظيفية او حتى جمالية، وانما اعتبره حصيلة نشاطات معرفية عديدة، قد تكون متباينة في نوعيتها او مختلفة في اختصاصاتها، كالمعارف البيئية والتاريخية والفلسفية والانثروبولجية والاقتصاد السياسي
وعلوم الاجتماع وحتى تأثيرات مضامين الحكي الشفاهي وولع الناس في مزج الاساطير بالواقع!. وهذه النظرة للناتج المعماري تسوغها طبيعة الفعل المعماري ذاته، الذي يجمع في دفتيه النقائض: فهو من ناحية "فعل" علمي، وفي أخرى "فعل" فني، بمعنى انه قادر على جمع ما لا يمكـن جمعـه؛ انه الصيف والشتاء على السطـح الواحـد! فمن يقينيـة العلم وماديته الى آفـاق التصور الواسعة المتخمة بها المخيلة الانسانية، تتبدى، بالنسبة اليّ، ماهية الفعل المعماري، الفعل الخالق لذلك النتاج التصميمي والمبدع لنماذجه المتميزة. ليس، بالطبع، كل منشأ معماري متضمنا كامل تلك الخصائص. ربما كان المثال المعماري المميزّ، هو الذي تحضر فيه جميع تلك السمات او بعضها. لكن الامر الاكيد ان النموذج المعماري الخاص المعبر بظهوره عن انعطافات مهمة في ثقافة بلد او أمة، بمقدوره ان يجسد عبر مفردات لغته التصميمة عن حضور بليغ لتلك الخصائص. ومبنى "الجامع الاموي" بدمشق (705-715)، احد تلك الابنية الذي يشي، بجلال تكويناته واستثنائيتها، عن جدة وقوة وكفاءة و"لذة" الفعل المعماري!. عندما اكون في دمشق، اسارع لزيارة الجامع اياه، الذي اعتبره بمنزلة الصديق العزيز. ازوره في اوقات مختلفة من اليوم، حتى ارى تحولات مفردات التكوين وهي تعمل في حالات تباين الاضاءة والانواء. اجلس لفترات طويلة؛ واراقب تقبل الناس الزائرين لعمارته، واجد ذلك التقبل يتسم بالتنوع والاختلاف لكنه لا ينفك يثير لديهم العجب ، المشوب ...بالمتعة. افضل البقاء كثيرا في الصحن. واعتقد - على خلاف ما يظنه كثر- بان أهمية تلك المفردة معمارياً متماثلة مع أهمية مفردات التكوين الاساسية الأخرى. بل واعتبرها شخصياً، المفردة التصميمة الاكثر اثارة وحيوية. انها العنصر المفتوح المكافئ للظلة المسقفة. وفيه، في الصحن، تتمثل قيمة العمارة البدئية، وأنموذجها الاصلي، باعتبارها "الفضاء المحصور". فجلال الصحن، من جلال تمثيله لمعنى العمارة الصافي وتجسيده المبدع لها. تدهش عمارة الجامع الكثيرين. تدهشهم تراتبية العناصر التكوينية، وترتيب الاحياز، نوعية اللغة، واسلوب المعالجات التصميمية والتزينية. يدهشني انا كل ذلك، لكن ما يدهشنى ايضا، صيرورة صيغة العمل المعماري المتمظهر امامي؛ الصيغة التى نشأت اول مرة بتواضع جم في "المدينة"، عندما بات منزل الرسول الكريم اول مسجد للمسلمين، وما اعقب ذلك من ترسيخ لتكويناتها في امثلة معمارية تمثلت لاحقاً في مسجد البصرة ومسجد الكوفة ثم تبعها مسجد عمرو بن العاص بالفسطاط بمصر. لكن فكرة المسجد بصيغته الاولية رغم أهميتها التأسيسية لم تكتسب "فورمها" المبدع والناضج والكفء والمتقن الا هنا: في هذا المسجد الجليل، الذي امست عمارته مثالا للاحتذاء والتقليد. وعلى منواله تم انشاء مساجد بلاد المغرب الشهيرة، فضلا عن مساجد المشرق التى جسدتها المساجد المهيبة في بغداد وسامراء. لا يمكن حصر أهمية مفردة الصحن بقيمته المنظورة. انها بالطبع اكثر من ذلك. انها مغتنية بعديد الوظائف التى يؤديها الصحن. فهذه المفردة فضلا عن أنها جزء لا يتجزأ من خصوصية التكوين، (اذ بغيابها يفقد التكوين سمته الرئيسية الى تسم هذا النوع من المساجد)، فانها بديل عن اختفاء تقاليد حضور الميادين او الساحات العامة من تخطيط المدن الاسلامية. انها في هذا المعنى كناية عن تعويض لذلك الغياب. ان ابعاد الصحن الفسيحة (التى تقدر بـ 132×50 مترا تقريباً) يؤهله لان يكون استمرارا لمفهوم "الاوغورا" الاغريقية او "الفورم" الروماني . انه في الاخير ذاكرة مدينة دمشق، وتذكار لمعبد " حدد" الآرامي، ومعبد "جوبيتير" الروماني، اللذين نهضا يوما ما، من على هذا المكان شديد التمّيز، المترع بالقداسة. تؤسس عمارة الصحن مع مفردات الجامع الأخريات، تقاليد تصميمة ستشكل فيما بعد مفهوم العمارة الاسلامية وتكرس خصائصها. ففي الصحن ينشأ حدث معماري غاية في الاهمية، اذ تضحى الفعالية التزينية فيه مكافئة في الاهمية للقرارات التصميمية، ما اكسب الجامع خصوصيته التى اعطته فرادته. وبنتيجة هذه الفعالية يتحول القوام الانشائي في الصحن الى منشأ ملون، من خلال اكسائه بلوحات فسيفسائية عديدة الالوان. اوسعها هي اللوحة الفسيفسائية التى اراها في اعلى جدار الرواق الغربي من الصحن والتى يبلغ طولها 34.5 وارتفاعها اكثر من 7 امتار، لكن الامر المثير ليس في وسع اللوحة وابعادها الكبيرة، رغم ان ذلك يعد حدثاً تشكيلياَ رائداً. المثير فيها موضوعها، الذي يمثل نهر بردى وعلى جانبيه بيوت دمشقية ذات سقوف مائلة انطوى شكلها المنظوري على فتحات لنوافذ علوية تتوسطها فتحات ابوابها في مستوى الارضية. ويتراءى لي ان الفنان قد بذل جهداً استثنائيا في تحقيق لوحت
في رحاب صحن الجامع الاموي
نشر في: 30 أكتوبر, 2009: 04:34 م