استكمل اليوم الحديث عن زيارتي للأنبار. وقد أخذتني الصدفة الجميلة إلى مضيف الشيخ حميد الشوكة زعيم آل بوذياب وهو أحد مراكز القوى الاجتماعية في المدينة. الصدفة جعلتني أتعرف على تنوع الموقف السياسي في المحافظة، فالشيخ الذي ينصت بلياقات مضائفنا الأصيلة، إلى اعتراضاتي الجذرية على نهج رئيس الحكومة، يعود ويعرض أمامي انتقاداته العميقة للأحزاب الكبرى في الأنبار، ويؤكد أنه لا يؤيدها في رفض الحوار مع المالكي، كما يعترض على فكرة الإقليم، حاليا على الأقل. ومع ذلك فهو متمسك بمطالب المحتجين وله خيمة كبيرة بساحة الاعتصام.
في مضاربه اجتمع كبار شيوخ الأنبار بمواقف سياسية متنوعة، وجاء المحافظ أيضا. ودار حديث صريح مع رجال بعضهم ينتقد صدام حسين بجدية رغم أنه شغل مناصب مهمة في نظامه. تسمع أصوات من يعترضون على دعوات العنف بشدة رغم انتقادهم الشديد لسياسة المالكي. كلهم تقريبا يسألونني: كيف تقوم وسائل الإعلام بتصوير أهل الرمادي كقتلة يريدون "أخذ الحكم من الشيعة"؟ ولماذا نعترض على الشيعة ونحن نطلب من أحزاب الشيعة الإنصاف، ونريد شريكا معتدلا في الوطن، فيرد علينا المالكي باتهامات وتشويهات؟
إن الناس في الأنبار يعترفون بوجود متطرفين في مدنهم، ويطلبون من الأطراف الأخرى أن تعترف كذلك بوجود متطرفين. هم يشيدون بمواقف مرجعية النجف والبيانات الجريئة لمقتدى الصدر والحكيم وكردستان، لكن احدهم يقول لي بألم: علينا جميعا أن لا نكتفي بوصف التطرف أو مطاردته وإعدام المتورطين. المطلوب حوار وطني لمنع أسبابه. انتبهوا لما يمكن أن يحصل لو استمر شعور الشباب في الأنبار ونينوى بأنهم منبوذون سياسيا، ومطلوبون أمنيا. لن نزعم شيئا لكننا نطلب من صانعي السياسات أن يجلسوا مع شبابنا ليفهموهم، ويلاحظوا مخاوفهم من المستقبل. هناك سياسات أمنية وإدارية تقول للشباب إنهم مواطنون من الدرجة الثانية، لأن بعض أبناء عشيرتهم كانوا مع صدام حسين، أو القاعدة. ولا احد يقول لهم بأن عشائرهم نفسها قدمت تضحيات كبيرة في طرد تنظيم القاعدة الذي أخاف الحكومة بإمكاناتها.
الحديث مع الوجوه الاجتماعية يطول. ثم يتواصل مع شباب يرتدون الأزياء الحديثة في سوق الرمادي. كثيرون استوقفوني هناك أو في ساحة الاعتصام وذكروا لي أنهم أصدقائي على تويتر أو فيسبوك. يتفاخرون أمامي بأنهم قللوا نفوذ أصوات التطرف وأقاموا معرض صور تحدثت عنه في مقال الأمس، يزخر بمقولات مفكري عصر النهضة وفلاسفة التنوير، في نقد الاستبداد.
اسألهم عن الحريات في محافظة يغلب عليها طابع القوى الاجتماعية التقليدية، فيأخذونني الى مقاهي حديثة، ومدن ألعاب ترتادها العوائل، بل ركن على الكورنيش تباع فيه المشروبات الكحولية. يعلق احدهم: طريقة حياة القاعدة وطريقة موتها، لم تكن تعجبنا. نريد دعما عراقيا يعزز رغبة الحياة المشتركة. والشعور العميق بأن التطرف يفسد الأخلاق ويخرب المصالح ويسفك الدماء. يقولون: مشكلتنا مع المتطرفين كبيرة مثل مشكلة الشيعة مع متطرفيهم. إن من يساعد التطرف هو الظلم والفجيعة والإحساس بأنك مواطن منبوذ امنيا وسياسيا. هذا ما يجب استيعابه من صانعي السياسات.
أجلس على شط الفرات ليلا أنصت للمطر والربيع والنخل ورائحة مدهشة للحقول. أتخيل سفن تجار فينيسيا وهي تمر من هنا قبل خمسة قرون قاصدة البصرة ومضيق هرمز. وأشرب قهوة كالتي يشربها المرء في أطراف بادية الزبير، خفيفة مرة محسوبة الأوزان والمعايير. وأتناول خبزا من تنور مثل تنور جدتي بالضبط. وكرم المضيف يقدم كمأ الصحراء البكر الفطرية. من زمان لم نتذوقه. أسأل صديقي: ما اكبر البركة في هذه البلاد وأكثرها تنوعا من جوز السفح الكردي حتى روبيان شط العرب؟
إن المجتمع فطري لكنه يشهد سجالا صحيا اليوم. شاب صغير يقول أمامي: "ندرك أن الشيعة يكرهوننا". أما أنا فأتذكر شابا صغيرا في الناصرية قال لي: "ندرك أن السنة يكرهوننا". الشباب يتشابهون في الضياع داخل انفعالات السياسة وارتفاع صوت التطرف. يتحدث رجل كبير إلى الشاب: "يا ولدي لو ولدت في كربلاء لكنت شيعيا". البلاد الكبيرة تتنوع كما تتنوع النباتات من الجبل إلى بحر البصرة. التاجر الشاطر من يجمع السوق والبضائع لخير الناس، والتاجر المفلس يقوم بإحراق السفن التجارية.
في وسع الاعتصام أن يستمر سنة أخرى ،فقد تقاسمت ٣٠ قبيلة مهماته. كل يوم تتواجد قبيلتان، وتنقلان مضيفهما الاعتيادي إلى الساحة. ولكن كيف نتعلم أن ندير خلافاتنا بشكل صحيح؟ كل كلمة طيبة تصدر من البصرة والنجف وأربيل، تعزز تجاه السلم الأهلي هناك وتنضج شعارات المحتجين. البداية هي أن تنتهي القطيعة، وأن لا تترددوا في زيارة الأنبار. ستجدون اعتدالا يجب دعمه وتقويته. وتنوعاً في المواقف السياسية داخل ساحة الاعتصام. ستجدون في مضيف آل بوذياب كمية من تربة الحسين مركونة باحترام في انتظار الضيوف الشيعة.
معنى الحسين في مضارب الرمادي
[post-views]
نشر في: 22 إبريل, 2013: 08:01 م
جميع التعليقات 12
المدقق
يبدو انك ايها الكاتب العنجوكي قد رسمت حلما ورديا وعشت فيه وقد اقحمت نفسك في امور تريد اقناع الناس البسطاء بها .. وصورت طيبة ووداعة المتظاهرين مع اعطائهم حكما مسبقا حول مشروعية مطالبهم التي ينادون بها وقد تجاهلت ما يظهر كل جمعة في وسائل الاعلام من تهديد وو
غيث التميمي
صديقي سرمد انت تعلم انني من قرآئك اليوميين حتى ادمنتك وكم حاولت ان اتهم افكارك ولكن انصافا لم اجد لذلك سبيل .. وكم حاولت التهرب من عمودك اليومي فما اجدني اغفو الا بعد قراته ..واليوم او ان اعترف في( معبد العباهلة) الذي لك شرف ان تكون اهم رهبانه (انك اثرت ع
د. أحمد السرحان
نعلم علم اليقين ان اهل الانبار اهل طيبة و اهل عشائر و يعرفون الاصول و هم عراقيون اولاً و اخيراً ولكن اود ان اسألك ان كنت قد التقيت بمن يعتلون المنصات كل جمعة داعين للطائفية و للعنف؟ هل سألت أخوتنا في الرمادي و شيوخ العشائر لماذا يسمحون لدعاة العنف و الطائ
حنان
ام انك (ضربت) الثريد و نسيت؟ عجبتني هاي العبارة قبل التعليق .....د.احمد السرحان اني اكولك شوف جم شاب عراقي من الجنوب وبالذات من الناصرية استجوبه حزبي من اهل الرمادي!!؟؟...بربك هم التقيت من بيهم مثلا دكتوار او موظف او عامل نظافة او حتى شرطي او جندي...لو ب
أحمد هاشم الحسيني
حسنا إكتشفت لنا يا سرمد وجود معتدلين في صفوف المتظاهرين مع أنهم لا يمثلون من خلال وصفك إلا خيمة من مائة خيمة أي بنسبة الواحد في المائة ويجب أن تمد الى هؤلاء الأيدي ويشجعون ويعمل الجميع على تنمية روح الأخوة والمساواة بل وحتى التصدي المشترك للحكومة والمالكي
كاطع جواد
ان هدف الاستاذ سرمد الطائي من عرضه هذه المقالة والتي تحدث بها عن جوانب معينة شاهدها خلال زيارته ليس سياسيا وانما هو واجب الإعلامي فما قام به السيد سرمد ليس بالعمل المعيب حتى يستحق كل هذا الشتم !! فالمجتمع العراقي متنوع بثقافته فابن الناصرية قد يختلف عن
عمار
المدقق.... بالمقابل اكو ناس غيرك راحوا للأنبار وحظيو بالترحيب والاهتمام.... نعتمدهم لو نعتمدك لتقييم اهل الانبار ؟؟؟؟؟؟
صفاء
ههههههههههههههه لماذا لم تنشرو تعليقي ههههههههههههههههههههههههههههههههه
حسين الخشيمي
عملت لسنوات طويلة مع اهالي الانبار في بغداد, ولم اسجل عليهم ان نقطة سلبية سوى (الافراط بالكرم).. طيبون جداً, ويستحقون التقدير, ولطالما وجهوا لي الدعوات المتكررة لزيارة مدينتهم رغم الاحداث الرهيبة التي كانت في عامي 2008 و2010... في ديالي المشهد متكرر, واذك
احمد صالح الحيالى
الانبار مركز عرب العراق ومظيف العراق وتاج على الراس وهم رمز وحدة الشعب العراقى وستثبت الايام من هو المدافع الحقيقى عن عروبة العراق بوجة التوسع الفارسى باسم الدين والمذهب
علي ابراهيم
ان الانبار كما النجف والموصل كما البصرة عراقيون وطبعا هم من بني البشر فمنهم الصالح ومنهم الطالح وما هي بوراثة جينات وانما تربية الانسان لنفسه فكم من صوت ينعق هنا وهناك كغربان شر كما كانت القاعدة هنا والمليشيات هناك فما ان التحمت اليد باليد الا وكان اخراسه
يمام الساهر
تحياتي لك يا استاذنا الغالي الاخ العزيز سرمد قد تحاول انت وامثالك من الكتاب المنصفين او المعتدلين ان يدفنوا الفجوة التي حفرها المحتل وبعض من تصرفات النظام السابق والكثير الكثير من تصرفات الانطمة التي توالت بعد سقوط النظام ان تمحي وتزيل المطيات التي وقع به