إيمان يحيىأيقظني رنين الهاتف في الواحدة بعد منتصف الليل وإذا بصوت خشن جهوري يأتيني من الطرف الآخر. سألت صاحب الصوت عن شخصيته، فجاءني جوابه صادماً أنا جمال الدين الأفغاني. أدركت أن هناك من يحاول ممازحتي في وقت سخيف، فرددت عليه متبرماً..
تفجر غضبه في حدة وهو ينطق: أنا محمد جمال الدين صفدرمير ظهير الدين الحسيني، أيها الأبله. فركت عينيَّ بيدين مرتعشتين ونظرت إلى جهاز ذكر رقم الطالب، الذي كنت قد اقتنيته للتخلص من المعاكسات التليفونية، فوجدته خالياً، لا يشير إلى رقم تليفوني. مجرد صفر كبير على شاشته. أدركت هيبة اللحظة التي أمسكت بتلابيبي فقلت للسيد جمال الدين: وما الذي دفعك إلى محادثتي أنا بالذات؟ رد عليّ قائلاً ‘’مالكم تقلقون رقدتي وتدبجون المقالات عني بعد وفاتي بمئة وعشرة أعوام؟ هل أفلستم إلى هذا الحد؟’’ بدأت أستعيد وعيي فسألته أن يعطيني حديثاً صحافياً عن أحوالنا الجارية، فوافق مشكوراً، ولعل موافقته كانت بسبب احتفائه الدائم في حياته بالصحافة. وها هو أول حديث صحافي مع الأفغاني بعد وفاته، تحقق فيه ‘’الوقت’’ سبقاً صحافياً: * فهمت منك أنكم في العالم الآخر تتابعون أحوالنا، فما هو رأيك فيما وصلت إليه أحوال العرب والمسلمين؟ - هذا موضوع كبير، اطرح سؤالاً محدداً ولا تعمم. يا ضيعة مهنة الصحافة في عهدكم، إذا كنتم تسألون تلك الأسئلة الغامضة. * حدث ما حدث في العراق، والآن هناك حكومة في ظل الاحتلال. ما موقفكم منها؟ - ‘’ملعون من يخون بلاده لمرض في قلبه، ملعون من يبيع أهل ملته بحطام يلتذ به، ملعون من يمكن الأجانب من دياره، محروم من شرف الملة الحنفية من يمهد الطريق لخفض كلمة مواطنيه، وإعلاء كلمة المستعمرين. * لكنها حكومة منتخبة، جاءت من انتخابات تمت لاختيار مجلس نيابي؟ - ‘’إن القوة النيابية لأي أمة كانت لا يمكن أن تحوز المعنى الحقيقي إلا إذا كانت من الأمة نفسها وأي مجلس نيابي يأمر بتشكيله أمير أو آمر أو قوة أجنبية محركة لها، فاعلموا أن حياة تلك القوة النيابية الموهومة موقوفة على إرادة من أحدثها. * هل ذلك يعنى أنك تؤيد الرئيس السابق صدام حسين أو ‘’المستبد العادل’’؟ - ‘’هذا من قبيل الأضداد، كيف يجتمع العدل مع الاستبداد؟. * إذاً، ما توصيفك للوضع الآن في العراق؟ - وضع كوضع الهند أيامنا طالبوا بإحلال الإنجليز محل ‘’جنودهم’’ مع بعض الجنود الهنود. ووضعوا على كل عاصمة فرقة إنجليزية لحماية الحاكم، وأعطوها أسماء محلية. * مولانا، والفتنة الضاربة في لبنان وفلسطين، ما رأيك فيها؟ - ‘’شر أدواء الشرق داء انقسام أهليه، وتشتت آرائهم واختلافهم على الاتحاد، واتحادهم على الاختلاف، فقد اتفقوا على ألا يتفقوا، إياك أن تنهج نهج التعصب، فتهلك. * ما رأيك في أوضاع أحزابنا السياسية وتيارات الأمة في هذه الأيام؟ - ‘’الأحزاب الشرقية داء ودواء، إذ تتألف الأحزاب لطلب الحرية والاستقلال، وتبدأ والكل أصدقاء، ثم ينتهون والكل أعداء.. تفرح الأمة ببرنامج الحزب ووعوده في الآجل والعاجل فتؤازره وتطيعه. ثم بعد ذلك تظهر في رؤساء الأحزاب الأثرة والأنانية، وتفضيل حب الذات على مصلحة الأمة، فتنزوي الناس عنه وتنكمش النفوس منه وتترك الحزب أو تعاديه. * الحديث الآن يدور عن الديمقراطية وضرورتها في عالمنا العربي، ظهرت بوادر قوى التغيير. ، لكن مشاركة الشعب مازالت محدودة وضعيفة، ما الأسباب؟ - ‘’إنكم معاشر الشرقيين، قد نشأتم في الاستعباد، وربيتم بحجر الاستبداد، وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك والرعاة حتى اليوم، وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين، وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين، تسومكم حكوماتكم الحيف والجور وتنزل بكم الخسف والذل، وأنتم صابرون، بل وراضون.. هبوا من غفلتكم، اصحوا من سكرتكم، انفضوا عنكم الغباوة والخمول.. وشقوا صدور المستبدين بكم، كما تشقون أرضكم بمحاريثكم.. عيشوا، كباقي الأمم، أحرار سعداء، أو موتوا مأجورين شهداء * حنانيك يا مولانا، ظلمت الشرقيين والعرب، أليس لحكامهم نصيب من غضبك؟ - ‘’أمة تطعن حاكماً سراً وتعبده جهراً، لا تستحق الحياة’. * هل معنى ذلك أن شعوبنا لم تنضج بعد لممارسة الديمقراطية، حسب رأي بعض ساستنا؟ - ‘’الشعب العربي كسائر الشعوب لا يخلو من وجود الخامل والجاهل بين أفراده، ولكنه غير محروم من وجود العالم والعاقل، فبالنظر الذي تنظرون به إلى الشعب المصري وأفراده ينظرون به على سموكم، وإن قبلتم نصح هذا المخلص، وأسرعتم في إشراك الأمة في حكم البلاد عن طريق الشورى، فتأمرون بإجراء انتخاب نواب عن الأمة تسن القوانين، وتنفذ باسمكم وإرادتكم، فيكون ذلك أثبت لعرشكم وأدوم لسلطانكم’. * لكن حكامنا يا سيدنا لا يصيخون السمع لمواطنيهم؟ - تحتجب الحقائق عن الملوك بقدر تحجبهم. * والعولمة.. ما حكمك فيها؟ - &l
هكذا تكلم الافغاني
نشر في: 30 أكتوبر, 2009: 05:19 م